بيروت 19 يوليو 2022 (وال) _ صدرت حديثًا عن داري الاختلاف، وضفاف، رواية “منديل بالفراولة” للروائي السوري خليل الرز.
من أجواء الرواية:
كنت غالبًا، من أجل مضاعفة إحساسي بالتضحية في سبيل رايا، أسافر إليها في قطارات كثيرة تنطلق بي في وقت واحد من موسكو ولينينغراد وريغا وفيلنوس وكييف وخاركوف وطشقند وألمآتا ومن مدن كثيرة أخرى لا أعرفها عمليًا إلا على الخريطة.
وكنت أصل إلى باكو في وقت واحدٍ أيضًا، وأحيانًا في أوقات مختلفة فأصل بالقطار القادم من موسكو في منتصف الليل، ثم بعد عشرين دقيقة أصل بثلاثة قطارات قادمة من كالينين ومن تالين ومن لينينغراد، ثم في الواحدة والنصف صباحًا أصل من تبليسي ويريفان.
وفي بعض الليالي كنت أظلّ أصل إلى باكو، كل نصف ساعة تقريبًا، حتى يبدأ الناس بالظهور في شوارع المدينة مع بدء انقشاع الظلام. وكان يسعدني، وأنا أتعدّد في حشدٍ من عشّاقٍ مذنبين يزحفون من كل جهات الخريطة إلى باكو من أجل رايا، أن أخترع لنفسي ما أمكنني من المتاعب التي لا تطاق في كل قطار من القطارات التي أركبها.
وكنت أتعمّد، في كل رحلاتي، أن أنسى تحضير بعض الساندويشات في البيت قبل أن أتوجه إلى محطات القطارات، على عكس قسم كبير من المسافرين الذين يتزوّدون عادةً بكل أصناف الطعام والشراب ليستغنوا عن خدمات مطاعم القطارات إما للتوفير أو لتجنب الزحام في مقطورات الطعام.
وكان يُشعرني بالراحة الشديدة ونكران الذات، حتى حين أتناول عشائي كالعادة في موسكو، أن أكون في الوقت نفسه جائعًا جدًا في كل القطارات الذاهبة بي إلى باكو، فيما لا يتوقف جيراني المسافرون معي عن التلمّظ بالطعام اللذيذ طوال الطريق. كانوا يلحّون عليّ طبعًا، من وقت إلى آخر، أن أقبل منهم سندويشة مرتديلا أو فطيرة ملفوف أو قنينة بيرة على الأقل. لكنني ما مرةً قبلت منهم شيئًا من هذا القبيل لكي لا أفسد على نفسي إحساسي بمتعة أن أصل إلى باكو متضورًا من الجوع في أنصاف ليالي الشتاء الباردة قدر الإمكان. كأن الجوع والبرد، في رحلاتي، كانا يجعلانني أكثر إخلاصًا لحب رايا وأكثر جدارةً به. (وال _ بيروت) ح م