بيروت 31 مارس 2023 (وال)- صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (بيروت)، أخيرًا مؤلَّف د. خالد عبد الرؤوف الجبر “التلقّي في التراث الفكري العربي” (في 392 صفحة من القطع الكبير، مع مراجع وفهرس عام، رفعَه إلى إحسان عبّاس)، حيث النظر في التلقّي الوافد إلى التراث الفكري العربي وحدَه غير مقيس بالرؤية الغربيّة للتلقّي لدى مدرسة كونستانس، وذلك بعرض استقصاء الموضوع باستقلاليّة تؤسّس لنظريّة عربيّة في التلقّي، إذ تمكِّن الخلاصات التي توصّل إليها د. الجبر من عقد مقارنة بين رؤيتين: التراثيّة العربيّة والحداثة الغربيّة، ثم ينتقلُ إلى مناقشة أطراف عمليّة الإبداع: المُبدع والنصّ والمتلقّي، ويقدّم زُبدةَ ما اشتملَ عليه التراث الفكري العربي في إنتاج المعنى وطرق التلقّي واتّجاهاته وجدليّة العلاقة بين الإبداع والتلقّي.
الكتاب أصلا رسالة جامعيّة لنيل شهادة الدكتوراة في التراث النقدي والبلاغي عند العرب، من الجامعة الأُردنيّة عام 2002، حَرصَ مؤلِّفه على الانفتاح على مصادر التراث الفكري العربي في حقولها المتنوِّعة، فامتدّت من الأدب والنقد والبلاغة إلى الفلسفة والكلام والفقه والتفسير.
منذ البدء، يعلن د. الجبر أن التلقّي صنوُ الإبداع وقسيمه الذي لا يظهر إلّا به، وعليه فإنّ التلقّي في التراث الفكري العربي لا يتعامل مع النصّ لفهم معناه ومقاصد مبدعه مهملًا مفهوم النصّ وطبيعة المُبدع وطريقة الإبداع وطريقة تلقّي النصّ إلّا بمقدار ما يتجاوز هذه جميعها سعيًا لبلوغ نهاية المطاف في مسار النصّ الإبداعي ملتقيًا بمتلقّيه.
يقف المؤلّف عند ما واجهه الفكر النقدي والبلاغي عند العرب من مشكلات جمّة في إطار تناميه، إلّا أنها مثّلثْ الدافع الدائم لتطويره في محاولة النقّاد والبلاغيين تجاوُزِها، والبحث عن حلول إن جانبت الصواب دلّت على عُوار التحليل وكشفت عن سُبُل أُخرى للخوض في التجربة الإبداعيّة بشقّيها، الإبداع والتلقّي، فمن الجلي أنّ ديمومة حركة الإبداع جبهتْ المتلقّين دائمًا بجديد، وأنّ ذلك الجديد، في كلّ مرّة وجدَ طريقه إلى الظهور، يكون أشبهَ بالمُغاير لذوق تأسّس واستقرّ، ما يجعله عُرضةً لاختلاف المواقف منه، وغرضًا لهجوم أنصار الذوق السائد، وقد تنبّه النقّاد إلى خطورة تلقّي الجديد في إطار القديم، أو النظر إلى النموذج في ضوء النمط السائد، وإلى كونه يجسِّد قصورًا في التقييم، ويقلّل من شأن الجديد بما يقيسُه بغيره، وإلى هذا الإشكال المتجدّد أشارَ ابن قتيبة في مقدّمته للحديث عن الشِّعر والشعراء، كاشفًا فيها عن رسوخ القضيّة في الفكر النقدي منذ بداياته، ولعلّ موقفه، وموقف الجاحظ، يُمثّلان أوّليّة الخوض في المسألة على نحو واضح فيه شيء من التفصيل، وتتّضحُ المسألة أكثر مع الجرجاني حين رأى في “الوساطة” أنّ القومَ قد مالوا إلى التأنّق “وترقّقوا ما أمكن، وكسوا معانيهم ألطفَ ما سنح من الألفاظ، فصارت إذا قِيست بذلك الكلام الأوّل يتبيّنُ فيها اللينُ، فيُظنُّ ضعفًا، فإذا أُفردت عاد ذلك اللينُ صفاءً ورونقًا، وصار ما تخيّلته ضعفًا رشاقةً ولطفًا”.
ويشير د. الجبر في ثنايا فصول كتابه إلى أنّ النقّاد المتأثّرين بالفلسفة ينحون منحىً مُغايرًا في تأكيدهم على اعتبار الاتّجاه الجمالي مقياسًا، إذ مدارُ الشِّعر لديهم المحاكاةُ والتخييل، ومرتكز الأمر في رأيهم أنّ الشِّعر إذا خلا من المحاكاة لم يُخيّل للمتلقّي شيئًا، وبهذا يفقد قيمته الشعرية، فهم يعتمدون مقياس الفارابيّ في التفريق بين الشِّعر والخطابة، وبين الشِّعر والقول الشِّعري، وبين الشِّعر والقول الخُطبيّ الذي يمتلكُ من الشِّعر وزنَه وقافيتَه، ويخلو من المحاكاة والتخييل.
ثم يُفردُ المؤلِّف فصلًا عن أثر التلقّي في حركة الشّعر العربي، فيجد أن ثمّة تعالقًا لا انفكاك له بين طرفي ثنائيّة الإبداع والتلقّي، فالتراث الفكري العربي لم يفصل بين طرفي هذه الثنائيّة، بل يقفُ المطالع في المظانّ النقديّة والبلاغيّة على المزج بينهما، نتيجة منطقيّة تمامًا لتآلف الطرفين في عمليّة التواصل لغويًّا، ذلك أنّ التواصلَ، إفهامًا وفهمًا، لهو الأصل في استخدام اللغة، فالكدُّ في الإبداع كدٌّ في التلقّي، فيتوقّف عند قصائد عمر بن أبي ربيعة، وأبي تمّام، والمتنبّي، وأبي نوّاس، ليظهر أنّ رؤية الشاعر الخاصّة للشّعر تسبقُ ما قد يطرأ عليه من تحوّلات لاحقة في حياته، فما يبدأ به تجربتَه الإبداعيّة يُعبِّرُ إلى حدّ ما عن نكهة وذوق خاصّين قد يُلازمان تلك التجربة على الدوام، فإذا طرأ عليها ما قد يحرفُها عن مسارها الأوّل، فقد يكون ناتجًا عن اتّساع أُفقه الخاصّ به، واطلاعه ودُربته وتأثّره.
في “التلقّي في التراث الفكري العربي”، أحاط د. الجبر بحضور المتلقّي والتلقّي في صياغة الإبداع، إذ أقرّ التراث الفكري العربي بهذا الحضور، فمايز بين تلقّي النصوص سماعًا، وتلقّيها قراءة، وتبيّن المفكرون العربُ أثر طريقة التلقّي في إنتاج المعنى، ونظروا إليه من زاويتيْن، أولاهُما: تهتمُّ به وحده، وتنحو منحًا جماليًّا خالصًا في الإبداع، والأُخرى تجعلُه مدخلا أصيلا لتحقيق أغراض ووظائف اجتماعيّة، لكن كلتيهما تُلحّ على ضرورة توافر النصّ على قدر من جماليّات التشكيل والإنسجام والمعنى في اعتدال، ومن دون تصنّع وتعمّل زائديْن بما يؤثِّرُ في الغرض الأساسي، أو الوظيفة المتوخّاة، بمعنى أنّه آلت الوظائف التي تحقّقها النصوص عند العرب إلى وظائف التواصل والتأثير والإقناع والتربية الأخلاقية والمعرفة.
يضيء د. الجبر في مؤلّفه أنّ العرب لمحوا العلاقة الوثيقة بين تغيّر مسار الأدب وتغايرُ أذواق المتلقّين، ومايزوا بين الإبداع بدوافع ذاتيّة وبينُه تحت وطأة دوافع مفروضة، فيما آثروا النظر في النصوص بقطع النظر عن مبدعيها وأزمانهم، فأعاد د. الجبر إلى النقد العربي الحديث مكانته اللائقة به، وحبّذا لو أنه يُتحف القارئ بجديد عن النقد الأدبي العربي بمعارجه الطليعيّة في القرن العشرين بأعلامه الرائدة من جماعة أپولو، والديوان في القاهرة إلى مجلّتي “شعر”، و”الآداب” في بيروت، وما رافقها من تحوّلات جذريّة في مفاهيم النقد. (وال) ح م/ ر ت