إسطنبول 15 ديسمبر 2024 (الأنباء الليبية) – أكد المشاركون في اجتماع تشاوري عُقد في إسطنبول، يومي الجمعة والسبت، حول حوكمة السياسة المالية للدولة الليبية، بدعوة وتسهيل من مركز الحوار الإنساني، أن التوتر الذي ساد خلال العقد الأخير وأدى إلى تعثر إعداد وتنفيذ الموازنات العامة وفق التشريعات النافذة، هو في عمقه تعبير عن الانقسام السياسي وجذوره العميقة التي يغذيها نموذج إدارة موارد الدولة منذ حوالي ستة عقود، الأمر الذي يتطلب التحول إلى نموذج جديد ينتج نظاما يلغي المركزية المفرطة ويعزز الشراكة في المواطنة والسلطة والمسؤوليات.
ووجه المشاركون في الاجتماع الذي ضم شخصيات وطنية راكمت تجارب وخبرات عبر فترات مختلفة في قطاعات المالية والتخطيط والنفط والمصارف، في نهاية هذا الاجتماع التشاوري الذي تواصل إلى ساعة متأخرة من الليلة الماضية، رسالة مفتوحة إلى المؤسسات الليبية وإلى الجهات الدولية المهتمة بإدارة المالية العامة للدولة الليبية بخصوص الضوابط والإجراءات المهم الاسترشاد بها خلال الفترة القادمة بما يحفظ سيادة القرار الاقتصادي الوطني الليبي وحماية مقدرات الشعب الليبي ويحقق الاستقرار السياسي. وفي هذا الإطار، صيغت المخرجات التالية:
ودعت الرسالة التي تلقت صحيفة (الأنباء الليبية) نسخة منها اليوم الأحد، بخصوص الوضع الاقتصادي الحالي، من يهتم لأمر الليبيين أن يقول لهم وجوبا الحقيقة كاملة، مشيرة إلى أن خطابات المداراة والتماهي مع تشوهات الوضع الاقتصادي لا تخدم إلا أصحاب المصالح الضيقة وهي مغامرة بالوطن وأجياله.
وسجلت الرسالة تراجع مستوى المعيشة في العقد الأخير، حيث ازدادت نسبة الفقر وتقلصت حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي مع الارتفاع الكبير في نسب التضخم الفعلي والبطالة وتآكل مدخرات المواطنين إلى جانب التفاوت الكبير في الفرص الاقتصادية بين المواطنين ما يهدد بانفجار سياسي نتيجة تراكم الشعور بالتهميش – سواء أكان حقيقيا أو متخيلا – واحتمال تزايد هذا التهديد عندما يلتقي هذا الشعور مع سرديات التهميش المناطقي والاجتماعي.
ولاحظت أن المؤشرات المالية الكلية وصلت إلى مستويات تهدد الاستدامة المالية وتقوض جهود الاستقرار، ما جعل الشروع في برنامج شامل لإعادة هيكلة الاقتصاد الليبي بات ضرورة ملحة.
وأضافت أن الانقسام المؤسساتي أفقيا ورأسيا زاد من حالة الارتباك في الإدارة الاقتصادية والمالية للدولة، مبينة أنه مهما كانت الحلول الوقتية المقترحة إلا أنها لا يمكن أن تكون بديلا عن ضرورة توحيد القرار الإداري والمالي بتوحيد جميع المؤسسات السياسية وتجديد شرعيتها عبر الانتخابات العامة.
وحول الموازنة العامة أشارت الرسالة إلى أن الأصل بالموازنة العامة للدولة أنها تعكس رؤية استراتيجية وأداة تمويل ورقابة ومتابعة لكنها تستخدم حاليا فقط في الإنفاق الجاري ما يفقدها الفعالية ويضعف مصداقيتها السياسية والمجتمعية، بحسب الرسالة التي ركزت على ضرورة وجود موازنة موحدة شاملة لكل بنود الانفاق الحكومي ولكافة أنحاء ليبيا، وشددت على أنه رغم كل التحفظات الممكنة، تبقى الموازنة الموحدة أفضل من أي ترتيبات مالية.
ودعت الرسالة إلى وجوب أن تكون الموازنة واقعية وتراعي الاحتياجات والإيرادات المتوقع تحقيقها وأن أن تكون مؤسسة على المؤشرات الكلية والقطاعية، الكمية والنوعية، بما يضمن إمكانية المتابعة والتقويم في إطار السياسة المالية مؤكدة أن غياب المؤشرات الاقتصادية في الموازنات العامة يعكس التعاطي المؤسف مع المال العام بمنطق استنزافي.
ورأت الرسالة يشأن الإيرادات أنه يتعين على جميع الجهات العامة المكلفة بتحصيل الإيرادات العامة القيام بذلك وألا تقوم أي جهة بالاحتفاظ بها أو استقطاع جزء منها لأي سبب أو تحويلها لغير الجهة المختصة قانونا، مشددة على أن تودع حصيلة جميع مبيعات النفط والغاز والمشتقات النفطية وجميع الإيرادات السيادية الأخرى بدون استثناء وفي آجالها المحددة في حساب الإيراد العام التابع لوزارة المالية.
وقالت إنه في دولة تعتمد أساسا على إيراداتها النفطية، يجب على المؤسسة الوطنية للنفط أن تفصح بشكل شهري عن البيانات التفصيلية لصادراتها وكمية كل خام منها وسعر البيع وحصة الشريك الأجنبي وحصة الخزانة العامة.
ولاحظت فيما يتعلق بضوابط ومعايير الانفاق، أنه يتعين على الحكومة والمؤسسة الوطنية للنفط عاجلا إنهاء العمل بنظام مبادلة شحنات النفط لتوفير احتياجات السوق المحلي من المحروقات ووجوب تحديد هذه الاحتياجات بصورة دقيقة وتوريدها وفق الكميات المطلوبة والمحددة على أن تقوم المؤسسة الوطنية للنفط، بالتعاقد مع المصافي العالمية وفق إجراءات شفافة وأن تلتزم المؤسسة والشركة العامة للكهرباء بعمل مطابقة شهرية لتحديد الإمدادات الفعلية للشركة من الغاز والنفط الخام ومشتقاته.
ولاحظت أنه لأسباب اقتصادية وأمنية تهم الاستقرار في ليبيا، يجب إعادة هيكلة دعم المحروقات، على أن يتم وفق سياسة منهجية مدروسة وتدريجية تقوم على توفير شبكة حماية اجتماعية وتعزيز القدرة الشرائية للمواطنين وقبل ذلك كسب ثقتهم في مؤسسات الدولة عبر التواصل والشفافية والافصاح، مؤكدة أن ترشيد الانفاق في أبواب المرتبات والدعم قد يعتبر بطبيعته إجراء قاسيا ومؤلما لبعض الفئات الاجتماعية إلا أنه يتعين على الدولة أن تمارس سياسة الحقيقة مع المواطنين وأن تتوقف الجهات العامة عن سياسة استرضاء الرأي العام وتحقيق المصالح الفئوية.
ودعت في باب ترشيد الانفاق، أنه يجب في موازنة سنة 2025 القيام بالإجراءات وقف التعيينات الحكومية ووقف الزيادة في المرتبات طيلة سنة 2025 لفسح المجال لحصر دقيق للموظفين العموميين وتحديد الاحتياجات الفعلية ومراجعة العمل بنظام الإفراجات المالية لما يشوبه من مخالفات وإصدار جدول مرتبات موحد يراعي مستوى المعيشة وتناسبا معقولا بين الدرجات العليا والدنيا، إلى جانب مراجعة تضخم بعض بنود الموازنة مثل الإعاشة والإقامة وشراء السيارات، وتقليص عدد الجهات الممولة من الموازنة العامة بدمج المؤسسات العامة ذات الأغراض المتشابهة، وتقليص عدد السفارات والبعثات الليبية الدبلوماسية بالخارج وعديد العاملين بها، والتوقف عن إنفاق الأموال العامة وبأرقام كبيرة وبدون أولويات واضحة في موضوعات اجتماعية مثل الزواج دون دراسات اقتصادية وميدانية تبين آثارها على الفئات المستهدفة بها.
وحثت الرسالة الجهات المسؤولة على تفعيل ودعم المؤسسات التالية لأهمية أدوارها في التطوير الاقتصادي، وهي مصلحة الأحوال المدنية، السجل العقاري، مصلحة الإحصاء والتعداد، مصلحة الضرائب، مصلحة التخطيط العقاري، مصلحة الأملاك العامة ومصلحة الجمارك.
ودعت أن تكون الأولوية في باب التنمية لمشروعات الطاقة والكهرباء والخدمات الأساسية والاجتماعية وأعمال البنى التحتية ووجوب أن تكون المخصصات المالية للمشروعات المستهدفة بمسمياتها وتوزيعها الجغرافي وقيمة كل منها وتدفقاتها النقدية المطلوبة على مدى فترة التنفيذ، مشددة على التأكيد على الالتزام بعدم النقل من الباب الثالث (التنمية) إلى الأبواب الأخرى في الموازنة العامة.
ولاحظت الرسالة بخصوص متابعة وتقويم تنفيذ الموازنة، أن الموقعين عليها واعون أن الموازنة العامة تتضمن حقائق هيكلية يصعب تجاوزها في بعض الأحيان مثل تضخم أعداد الموظفين واعتماد الكثير من المواطنين على الدعم واستشراء الفساد في دواليب الإدارة وأنهم واعون أيضا بأن معالجة التشوهات الهيكلية ومحاربة الفساد تأخذ وقتا وتحتاج تصميما وعزما وتخطيطا حتى لا تتحول النوايا الحسنة لواضعي السياسات المالية إلى قرارات غير محسوبة وغير مدروسة تذكي النزاعات، وبالتالي يجب أن تخضع جميع الجهات العامة بدون استثناء لقواعد المتابعة من الأجهزة الرقابية بما يعزز الشفافية والحوكمة.
وأكدت ضرورة أن تصدر الجهات العامة تقريرا شهريا بالإيرادات والنفقات وتقريرا بإنجاز مشروعات التنمية وتكلفتها ومدى الزيادة أو الوفر في المال والوقت.
وقالت إنه يتعين على أن يقوم ديوان المحاسبة وهيئة الرقابة الإدارية بإصدار تقرير ربع سنوي حول إنفاق مخصصات التنمية، بالإضافة إلى التقرير السنوي في النصف الأول للسنة الموالية لتدارك المخالفات وعدم استفحالها، مشددة في هذا الصدد على أن تلتزم جميع مؤسسات الدولة بإقفال حساباتها الختامية ما يمكن من تحديد مركزها المالي لحصر الالتزامات والديون على الخزانة العامة.
وحثت الرسالة بخصوص الإجراءات الإصلاحية المصاحبة المؤسسات التشريعية والتنفيذية وبيوت الخبرة القيام بمراجعة جميع التشريعات المرتبطة بالنظام المالي والاقتصادي للدولة على أن تتم هذه المراجعات بشكل منهجي وتشاوري لضمان دخولها حيز التنفيذ دون عوائق، مؤكدة أنه يتوجب أن تتقيد المؤسسات في إدارتها المالية، إلى أن يحدث ذلك، بالتشريعات الحالية ووفق قواعد التعاون والمهنية التي يجب أن تسود بين مؤسسات الدولة.
وطالبت الرسالة بوجوب إجراء التعداد السكاني والمسوحات الأساسية بما يمكن من توفير مؤشرات كافية يمكن الاعتماد عليها عند اتخاذ القرارات الاقتصادية وتحديد توقيتها المناسب، وتوفير ونشر البيانات الاقتصادية والمالية وتعزيز شموليتها وموثوقيتها، وتخصيص موارد للبلديات ومنحها الصلاحية في إنفاقها على أولوياتها التنموية المحددة على أن تكون الأولوية في المشتريات والتعاقدات العامة للقطاع الخاص الليبي.
وشددت على أنه لا يجب أن تتحمل الخزانة العامة أي التزامات مالية لم تدرج لها مخصصات ضمن الموازنة العامة، وأن تضطلع وزارة المالية بحسن إدارة أصول الدولة الليبية (من شركات عامة وصناديق سيادية) وتعظيم إيراداتها وعدم التصرف فيها خارج الموازنة العامة للدولة.
ودعت فيما يتعلق بالخطوات الإجرائية لاعتماد الموازنة، إذا كان الوضع الاقتصادي استثنائيا، إلى وجوب التعامل بشكل استثنائي مع موازنة السنة القادمة من أجل اعتمادها وضمان الالتزام بها وتنفيذها بسلاسة الأمر الذي يقتضي – إلى أن يحدث ذلك – توافقات سياسية واسعة بين الأطراف الرئيسية وتواصلا نشطا بين الجهات الفنية والمؤسسات السياسية ذات العلاقة.
وحرصت الرسالة على التأكيد أنه يجب أن يحافظ مصرف ليبيا المركزي على استقلاليته والعمل وفق اختصاصاته المحددة بالتشريعات الليبية ضمانا لمهنيته وحياديته. كما يجب ترتيب العلاقة مع وزار تي المالية والاقتصاد بما يسمح لكل منهما بتنفيذ صلاحياته دون تداخل.
وخلُصت الرسالة إلى إن التعاطي الجدي والمسؤول مع التحديات الاقتصادية يستلزم إطلاق عملية سياسية شاملة وتكاملية بين مساراتها المختلفة دون إبطاء أو تأجيل من طرف البعثة الأممية مشيرة على أنه إذا كانت ليبيا تحتاج إلى ميثاق وطني متين بين مكوناتها السياسية والاجتماعية، فإنها أيضا تحتاج إلى حوار عميق حول النموذج الاقتصادي المنشود الذي يجب أن يوجه عمل جميع المؤسسات ويعالج محفزات الخلاف المتجذرة والمتكررة. (الأنباء الليبية إسطنبول) س خ.