طرابلس 16 ديسمبر 2024 (الأنباء الليبية) – ساهمت المشاريع الصغرى والمتوسطة التي تضاعف عددها عدة مرات خلال العقدين الماضيين في ليبيا، ولو بصورة جزئية، في تحريك عجلة الاقتصاد المحلي والمساهمة في التقليل من ظاهرة البطالة بين الفئات الهشة، خاصة النساء والشباب، ومعالجة اتساع دوائر الفقر المسكوت عنها في بلادنا جراء استشراء الفساد ونهب المال العام وسوء الإدارة وانعدام التخطيط على مستوى الدولة وانهيار منظومة التعليم، خاصة التعليم المهني، إلى جانب التقليل من انتشار الجريمة بمفهومها المحلي والعابر للحدود، وتوفير نوع من السلع والخدمات لمختلف أطياف المجتمع.
وتعتبر المشروعات الصغرى والمتوسطة، بحسب الخبراء ودراسات محلية ودولية موثقة، أحد أهم ركائز الاقتصاد في الدول النامية والمتقدمة على حد سواء، ولها أهمية كبرى ودور أساسي في التنمية الشاملة والمكانية، في المدن والقرى والأرياف وحتى في المناطق النائية.
أدركت الدولة الليبية أهمية هذه المشروعات لكن بصورة محتشمة لعدة أسباب أبرزها أنها دولة ريعية يعتمد اقتصادها على مصدر دخل وحيد هو النفط، وبالتالي لم تواكب حركة تقدم مجتمعات أخرى قريبة من واقعنا في النهوض بهذه المشاريع التي عالجت الكثير من المشاكل والمختنقات، وساهمت في عجلة التنمية.
استطلعت مراسلة لوكالة الأنباء الليبية جانبا من المشاريع الصغرى يتعلق بصناعة المعجنات والمأكولات والحلويات الخاصة بالمناسبات الاجتماعية، وهي ظاهرة أضحت منتشرة في السوق الليبي بعد تقلص، وربما اختفاء، تقاليد قيام العائلة الليبية، صاحبة المناسبة الاجتماعية، بإعداد ما يلزم من أطعمة وحلويات للمناسبة بالتعاون مع الأقارب والجيران، من خلال تجارب ليبيات دخلن السوق الليبي وحققن نجاحات متفاوتة في مثل هذه المشاريع، بينهن من أبدعت وتفننت في مجال الطبخ وأصبح لها اسم في سوق العمل.
وقالت الخبيرة المتخصصة في التنمية البشرية، منسقة التدريب والإعلام بالبرنامج الوطني للمشروعات الصغرى والمتوسطة، منى بنيادم، في تصريح لمراسلة (وال)، إن البرنامج يُنظم دورات تدريبية ويُشرف على إعداد دراسات جدوى اقتصادية واستشارات فنية من خلال مستشارين اقتصاديين مجانا، وأبوابه مفتوحة لكل سيدة ليبية لديها فكرة مميزة أو موهبة في مجال معين يمكن البناء عليها وتطويرها أو تعديلها.
وأضافت أن البرنامج يوفر لصاحبة الفكرة كل مستلزمات المشروع بعد توقيع عقد بالخصوص لمدة 24 شهرا ويتعين على صاحبة المشروع بناء على ذلك الالتزام بتهيئة نفسها لدخول سوق العمل وتكوين فريق عمل خاص بها والقيام بأعمال الدعاية والاعلان والترويج للمشروع كخطوة أولى لبدايتها بعد انتهاء فترة الاحتضان.
وأوضحت بنيادم أن المركز يقوم بتدريب وترشيد صاحبات المشروعات الصغرى والمتوسطة في دورة (الريادة والإبداع وتوليد الأفكار) من النساء اللاتي لديهن أفكار مميزة ويرغبن في فتح مشروع جديد أو تغيير المسار.
وأضافت أن صاحبة المشروع الذي تم قبوله من لجنة المستشارين الاقتصاديين بالبرنامج يتم ترشيحها لدورة تدريبية أخرى تحمل اسم “دراسة جدوى اقتصادية” وهي دورة لمعرفة سوق العمل ولتحديد نقاط الضعف والقوة في المشروع.
وقالت الخبيرة الليبية إن آخر مرحلة لصحابة المشروع في البرنامج تقوم على تدريبها على “نموذج العمل التجاري”، وهو الجانب العملي للمشروع لتوضيح آلية العمل وأهم الخطوات لتحويل الفكرة الى مشروع عمل على أرض الواقع.
وبيًنت بنيادم أنه بعد الانتهاء من التدريب اللازم وإعداد دراسة الجدوى الاقتصادية يتم البحث عن مصادر التمويل مؤكدة أن المصارف تُعطى الأولوية للدراسات الصادرة من البرنامج الوطني.
وردا عن سؤال هل نجحت الليبيات في سوق العمل والمنافسة فيه خاصة بعد تلقي الدعم من البرنامج الوطني، أكدت الخبيرة الليبية أن السيدات الليبيات نجحن بالفعل ودخلن سوق العمل وبقوة ومنهن من استطاعت توفير فرص عمل للغير وساهمت في التقليل من ظاهرة البطالة في المجتمع.
واستشهدت في هذا الصدد بـالسيدة هدى العباني، التي تدربت في البرنامج الوطني للمشروعات وكونت اسما لامعا في مجال الطبخ الليبي وأصبحت رئيسة طهاة (شيف)، وتدير اليوم معملا للمعجنات وإعداد المأكولات والحلويات لتلبية احتياجات الزبائن يوميا مع خدمة التوصيل أو للمناسبات الاجتماعية.
ويتوفر المركز الوطني للمشروعات على العديد من الفروع في بنغازي وسبها ومصراته وجادو ويفرن، إلى جانب مركز أعمال المرأة في طرابلس ومركز ذوي الاحتياجات الخاصة، وتقدم هذه المراكز نفس الخدمات الموجودة بطرابلس من دورات تدريبية مجانية وإعداد دارسات الجدوى الاقتصادية وتقديم الاستشارات الفنية.
وأبلغت رئيسة الطهاة (الشيف)، نادية سالم حسين الفرجاني، المستشارة بقسم الشؤون الاجتماعية بالمركز الطبي طرابلس، خريجة 86 -87 من قسم الهندسة الاجتماعية، مراسلة (وال) أن فكرة مشروعها، معمل “الكريكشية” للمعجنات والمأكولات، جاءت عن طريق الأسرة وبخاصة والدتها التي كانت طباخة ماهرة وأورثتها هواية الطبخ، وعملت على تطويرها واستطاعت تكوين إسم وسمعة في السوق الليبي.
وقالت: ” البداية كانت من بيت الوالدة ومازال مشروعي قائما إلى اليوم وأساعد بعض المحتاجين بحكم تخصصي في المجال الاجتماعي ولدي طاقم عمل مكون من 4 (شيفات) ماهرات تربطني بهن صلة قرابة ونعمل كأسرة واحدة”.
وأضافت “الكريكشية” لقب أمي، ومنه جاءت تسمية المعمل، ولديه اليوم زبائن من مختلف الشرائح والأعمار حتى من كبار السن من الذين يعرفون الوالدة وبالتالي يعرفون مذاق الأطباق المميزة التي نعدها.
واستطردت: “عندما كنت في مصر بحكم دراسة إبني اشتغلت في مطعم التراث الليبي لصاحبته نور إبراهيم الغويل، ابنة المحامي الليبي إبراهيم الغويل، لمدة سنيتين، ولا تزال الغويل ترغب في عملي معها حتى اليوم نظرا لخبرتي وتميزي”.
وعن الصعوبات التي واجهتها، أوضحت العباني أن أي مجال عمل فيه صعوبات وتحديات غير أنه يمكن التغلب عليها بالإرادة والإصرار على المتابعة وهذا ما قمت به حيث عملت على الاستمرار فيما بدأت به الوالدة إلى جانب الدعم المستمر من المعارف والأقارب الذين يعرفون خبرتنا في مجال الطبخ، وهو الدعم الذي كان دافعا قويا وسببا في استمرار سلسلة “الكريكشية” إلى اليوم وأصبحت موروثا عائليا.
وقالت إن من أشهر المأكولات التي نقدمها، (المبطن، العصبان، كسكسي البصلة، البازين، الأرز بالبصلة وعدة أصناف من المطبخ الشعبي الليبي)، مشيرة إلى أن مطعم “الكريكشية” قام في إحدى المرات بإرسال طلبية إلى عائلة ليبية لديها مناسبة في بريطانيا، إلى جانب المشاركة في الملتقى الثقافي الليبي التونسي بأكلات شعبية ليبية، والمشاركة أيضا عام 2019 بـ “المبطن والكسكسي والبيتزا” في مهرجان مصر للمأكولات الشعبية الذي أقامه مطعم “التراث الليبي” بمشاركة مصر، تونس، ليبيا، المغرب، الجزائر وبعض دول الخليج.
وحول أسعار المأكولات في “الكريكشية”، أكدت العباني أن الأسعار تكاد تكون ثابتة ولم تتغير رغم ارتفاع أسعار كافة المواد الغذائية واللحوم بأصنافها، بيضاء وحمراء، لأن الزبائن تعودوا على أسعار محددة، إلا أنها تداركت لتقول “إن المحل اضطر إلى زيادة بسيطة في أصناف محددة لتغطية التكلفة”، مشددة على أن معظم الأسعار في “الكريكشية” لم تتغير منذ عام 2000 إلى الآن للحفاظ على الزبائن واستمرارية العمل ما ساعد على زيادة الطلب.
وتابعت العباني أن لجنة تفتيش تابعة لبلدية طرابلس رشحت “الكريكشية” لتوقيع عقد مع إحدى الشركات لتجهيز الطعام لعمالها بعد التأكد من جودة الأكل والنظافة وحسن المعاملة، إلى جانب ترشيحها للمشاركة في مسابقة طبخ في الأردن.
وأبلغت صاحبة معمل معجنات الخيرات (للبوريك والقديد والفطيرة والهريسة والرب) بميزران، نعيمة محمد (50 عاما، حاصلة على دبلوم إدارة وأم لـ 5 أبناء أيتام) مراسلة (وال) أنها بدأت العمل منذ عام 2017، وبدايتها تأسست على قيام أبنائها بتسويق ما تعده من (قديد وبوريك وهريسة ورشتة) للمحلات التجارية، مشيرة إلى أنها فكرت في هذا المشروع البسيط لمحاولة توفير سبل العيش الكريم لأسرتها خاصة بعد وفاة زوجها حيث أصبحت مسؤولياتها أكبر مع مصاعب الحياة وغلاء المعيشية وعدم كفاية المرتب الذي خلفه زوجها لتلبية الاحتياجات الأساسية للأسرة.
وأضافت قائلة:” بدعم مادي من أخي وإبني البكر، قمت عام 2021 بتطوير مشروعي واستأجرت محلا صغيرا لعرض منتوجي يُديره إبني، وأطلقت صفحة على (فيسبوك) واستطعت تكوين سمعة للمحل بفضل جودة منتوجي، وأصبح لدي زبائن خاصين إلى جانب استمرار تزويد محلات بيع المواد الغذائية ومعامل المعجنات في جنزور وأبو سليم وفشلوم وولي العهد و24 ديسمبر بما يُنتجه المعمل”.
وأوضحت نعيمة محمد أنها تواجه صعوبات مع الارتفاع اليومي لأسعار المواد وبخاصة اللحوم وضربت مثلا بعلبة (فازو) القديد وزن ربع كلغ الذي قفز من 15 دينارا العام الماضي إلى 25 دينارا هذا العام بسبب ارتفاع أسعار اللحوم.
وقالت أم محمد (أرملة في العقد الخامس من عمرها، لديها ثلاثة أبناء)، إنها تعلمت صناعة المعجنات ومختلف المأكولات الخفيفة في بيت العائلة ثم عملت في معمل خاص قبل أن تفتتح مشروعها الخاص بالمشاركة مع شقيقتها.
وتدير أم محمد اليوم معملا لصناعة المعجنات (رشتة برمة وكسكاس وبوريك عادي وبوريك جبدة وفتات) ومأكولات مختلفة وتعمل على الطلبيات اليومية والطلبيات الخاصة بالمناسبات، وتشغل معها أربع نساء ليبيات يقمن بمساعدة بعولتهن على تلبية احتياجات بيوتهن وأطفالهن، إلى جانب عاملة من المهاجرين تقوم بأعمال النظافة.
وأكدت هذه السيدة الليبية لمراسلة (وال) أنها لم تكن لتستطيع مواجهة مصاعب الحياة ومتطلبات أبنائها لولا هذا المشروع، موضحة أنها تمكنت من تأمين دراسة ابنتها البكر إلى أن تخرجت من معهد اسبيعة للطيران المدني في حين يواصل ابنها دراسته الجامعية ويقوم بمساعدتها في العطلات ويتابع ابنها الثالث دراسته الثانوية.
وقالت إن شهر رمضان يُعتبر من أفضل الشهور حيث يؤمن للمعمل دخلا مهما نظرا لزيادة الطلبات على المعجنات والأطباق الخاصة التي يتم إعدادها بمناسبة الشهر الكريم.
يُشار إلى أن التمويل الشخصي والتمويل الأسري يأتي في مقدمة تمويل المشاريع الصغرى والمتوسطة في بلادنا فيما لايزال التمويل الرسمي المتمثل في المصارف والصناديق الخاصة بالتنمية يشكل نسبة ضئيلة جدا ما جعل هذه المشاريع هشة للغاية.
وتقول معظم الدراسات أن أبرز التحديات التي تواجهها المشاريع الصغرى في ليبيا تتمثل في مشكلات تشريعية وإدارية وتمويلية حيث تتحفظ المصارف التجارية عن تمويلها خشية المخاطر المالية، وهي مخاطر عرفت الكثير من الدول كيفية معالجتها. (الأنباء الليبية طرابلس) س خ.
-متابعة وتصوير: ليلة الحداد