بنغازي 25 فبراير 2025 (الأنباء الليبية)- في صباح يوم بارد من فبراير، كانت عائلة الكيلاني تستعد لشهر رمضان كما تعودت كل عام.
في حي صغير من أحياء المدينة، جلست، ربة الأسرة، المتواضعة، تتأمل قائمة المشتريات التي أعدتها استعدادًا للشهر الكريم.
كانت الأم تعاني من ضغوط الميزانية، إذ إن ارتفاع الأسعار أصبح واقعًا لا مفر منه، وبدأت تشعر بقلق متزايد من أن تتخطى نفقات الأسرة حدود القدرة المالية.
البداية: قصة ليلى ومعاناتها
ليلى، التي تدير منزلاً مشتركًا مع زوجها وأربعة أطفال، تروي بصوت هادئ: “كل سنة، ومع اقتراب رمضان، أشعر وكأن السوق يتحول إلى ميدان معركة. الأسعار ترتفع، والتخفيضات تبدو كفخ للمستهلك. نحاول أن نشتري ما يلزمنا، لكن الشعور بالخوف من نفاد السلع”.
بدأت ليلى رحلتها في البحث عن بدائل، مترددةً بين العروض المغرية ومخاوف من ارتفاع الأسعار بشكل يفوق توقعاتها.
كانت التجربة الشخصية لليلى مرآة تعكس التحديات التي يواجهها العديد من الأسر في ظل ما يُعرف بـ”حمى التسوق الرمضاني”.
خلف الكواليس: تفسير اقتصادي لارتفاع الأسعار
في نفس الوقت الذي لازالت فيه ليلى تكافح مع ميزانيتها، أخبرنا خبير الاقتصاد المحلي عبد السلام المجبري : “الظاهرة لا تعزى فقط إلى ارتفاع الطلب، بل تتأثر بعدة عوامل اقتصادية مترابطة. في شهر رمضان، نجد أن زيادة الطلب مقابل العرض المحدود هي العامل الأول الذي يؤدي إلى ارتفاع الأسعار. عندما يتهافت المستهلكون على شراء السلع الأساسية، يصبح من الصعب على التجار تلبية هذا الطلب دون رفع الأسعار”.
وأضاف: “كما أن تكاليف التشغيل والتوزيع ترتفع في هذه الفترة. تحتاج الشركات إلى نقل وتخزين كميات أكبر من البضائع، وهذا بدوره يزيد من التكاليف التي تُضاف إلى سعر المنتج النهائي. وليس هذا فحسب، بل إن التذبذب في أسعار الصرف يؤثر أيضًا على تكلفة الاستيراد، خاصةً في البلدان التي تعتمد بشكل كبير على الواردات”.

لقاء مع التجار
في أحد أسواق المدينة المزدحمة، قابلنا محمد البرعصي، الذي يملك سوقا للمواد الغذائية. كان محمد ينظم رفوف بضاعته وسط زحمة المتبضعين، وابتسامته تخفي وراءها معاناة التجار من ارتفاع التكاليف.
يقول محمد: “في الفترة التي تسبق رمضان، نرى زيادة ملحوظة في المبيعات، لكن هذا الارتفاع يفرض علينا تحديات كبيرة. ليس لدينا القدرة على زيادة المخزون بنفس الوتيرة، مما يدفعنا أحيانًا إلى رفع الأسعار. بالطبع، نحاول قدر الإمكان الالتزام بالأسعار المعقولة، لكن بعض التجار لا يترددون في استغلال الفرصة لتحقيق أرباح إضافية.”
وأشار محمد إلى أن بعض التجار يتبعون سياسة رفع الأسعار مع كل تقلب في تكاليف النقل والتخزين، مما يجعل السوق يبدو وكأنه لعبة يزداد فيها الشراء والبيع بطريقة غير متوازنة.

صدى الظاهرة على الأسرة والميزانية
بينما تتضارب الآراء بين الأسواق والمتسوقين في شرح الأسباب الكامنة وراء ارتفاع الأسعار، تظل عائلة الكيلاني في قلب الحدث.
ليلى، التي كانت تحاول تدبير مصروفات الأسرة، أصبحت تشعر بثقل الأعباء المالية.
تقول: “كنت دائمًا أضع ميزانية شهرية، لكن مع ارتفاع الأسعار، أصبح من الصعب الالتزام بها. كل عام نشهد تنافسًا بين التوفير والشراء العشوائي بدافع الخوف من نفاد السلع وهذا واقع نعيشه بين الفينة والأخرى، حيث تختفي أحد المنتجات ذات الجودة العالية من الاسواق بعد اعتيادنا على شرائها، وهذا ما يؤدي إلى تجاوز الإنفاق المحدد”.
ومن جهة أخرى، يقول الخبير المالي حسام عيسى: “إن وضع ميزانية صارمة وتخطيط مسبق للشراء يمكن أن يخفف من وطأة هذه الظاهرة. على الأسر أن تميز بين الاحتياجات الأساسية والرغبات المؤقتة المدفوعة بالوسائل التسويقية والإعلانات. الأمر يتطلب تغييرًا في سلوك المستهلكين نحو الشراء الذكي والمقارنة بين الأسعار قبل اتخاذ القرار.”

من واقع التجربة
كان لدى عائلة الكيلاني تحدٍ آخر؛ وهو التوازن بين التقاليد الاجتماعية والاقتصادية. ففي ظل تقاليد شهر رمضان، يُعتبر الاستعداد المبكر وشراء كميات كبيرة من المواد جزءًا من العادات المتوارثة التي تمر عبر الأجيال.
لكن التحدي الأكبر يكمن في كيفية التوفيق بين هذه العادات والواقع الاقتصادي الجديد الذي يتسم بارتفاع الأسعار وعدم الاستقرار المالي.
في إحدى الأمسيات بدأت ليلى تناقش مع أفراد الأسرة أهمية الترشيد والتخطيط المسبق. “علينا أن نفكر بشكل مختلف هذه السنة. لنأخذ من التجارب السابقة دروسًا، ونخطط للشراء وفق الحاجة الفعلية بدلاً من الاندفاع وراء العروض والإعلانات التي تثير الخوف من النقص”.
وبحسب عائلة الكيلاني التي تعد نموذج حي يعكس السلوك الحياتي لأي أسرة ليبية أن التوعية والبحث عن البدائل المحلية قد يسهمان في تخفيف الضغوط المالية، حيث أصبحت تشجع على دعم المنتجات المحلية التي غالبًا ما تكون أقل تكلفة وأعلى جودة.

جهود المجتمع والحلول المقترحة
عائلة الكيلاني التي تمثل نموذجا حيا لم تكن معزولة، إذ تتشابك معها جهود الحكومة والمجتمع المدني. فقد بدأت الجهات الحكومية بتكثيف حملات التفتيش لمراقبة الأسعار وضبط جودة المنتجات في الأسواق، إضافة الى استئناف عمل الجمعيات الاستهلاكية بعد توقف عملها لمدة أربع سنوات لتسير للمساهمين السلع الاساسية بدعم حكومي يصل إلى 50 بالمئة، وفي الجانب الآخر أطلقت قلة من المنظمات الأهلية والجمعيات الخيرية حملات لإعانة بعض المعوزين من خلال ما يعرف بالسلة الرمضانية.
تقول أسماء السعيد، إحدى الناشطات في حماية المستهلك: “نعمل على تكثيف وتنظيم الجهود المشتركة بين الجهات الحكومية والمجتمع المدني لضمان أن لا يستغل التجار هذه الفترة التي يُعرفونها بالموسم الرمضاني لرفع الأسعار بشكل مفرط. حملات التوعية والمراقبة الدقيقة في الأسواق تُعد من أهم الخطوات لتحقيق استقرار الأسعار.”
وفي نفس السياق، يؤكد الخبراء على ضرورة تعزيز ثقافة الشراء الذكي من خلال ورش العمل والندوات التي تُعلم المستهلكين كيفية مقارنة الأسعار واختيار العروض الحقيقية بعيدًا عن الخدع التسويقية.

رؤية اقتصادية جديدة
بالنظر إلى التجارب السابقة، يرى الخبراء أن الحلول الاقتصادية المقترحة لتخفيف حدة ارتفاع الأسعار تشمل دعم الإنتاج المحلي وتشجيع الصناعات الوطنية.
يوضح المجبري: “يجب على الحكومات أن تتخذ إجراءات لتشجيع الإنتاج المحلي من خلال توفير حوافز للمصنعين، مما يخفف الاعتماد على الواردات ويحد من تأثير تقلبات أسعار الصرف على الأسعار النهائية للسلع.”
ويتابع: “الاستثمار في البنية التحتية للصناعات الوطنية يمكن أن يؤدي إلى خلق سوق مستدام يتميز بأسعار مستقرة وجودة عالية، وهو ما يعود بالنفع على المستهلكين وعلى الاقتصاد ككل.”
عكست عائلة الكيلاني في نهاية رحلة الغوص داخل حمى التسوق الرمضاني معاناة العديد من الأسر في ظل ضغوط ارتفاع الأسعار وحمى التسوق الرمضاني. (الأنباء الليبية) ف خ
تقرير: هدى الشيخي
تصوير: ناصر الحاسي