بنغازي 27 نوفمبر 2020 (وال) – آلة عزف “بيانو”، ومكتب صغير ومساحة واسعة من البلاط “سيراميك”، ارتمت وسطها، قطعة من سجادة “فرشة أرضية”، وأوراق ملصقة على الحائط تحوي ذكريات وأبيات من شعر منثور، ومرآة رسم بجانبها قلبٌ بداخله صورة ل”كارمن”، طفلة صغيرة عمرها سنتان، تقطن مع والديها وشقيقتها “عواطف” منذ أربعة أشهر، في شقة في الطابق السابع في عمارة “بن غزي -الخليج” في شارع “الشريف” في مدينة ودّعت الحرب منذ ثلاثة سنوات.
عبر درجات العمارة، نصحني “محمود بوشعالة” والد “كارمن” أن ارتقيها على مهل، إذ لاحظ أنني أحمل على ظهري حقيبة العمل التي تحوي معدات التصوير، اجتهد “محمود” في تنظيف مدخل العمارة وأجزاء من ممرات الطوابق كي يسهل عليه وعلى أسرته الصعود أو النزول دون عقبات.
آثار الدمار، لا يمكن مقارنتها بآثار الشعور بالغربة والتهجير والعجز، هنا في عمارة “بن غزي” التي تحوي عدد 56 شقة موزعة على 8 طوابق، تُطل على معالم اشتهرت بها مدينة بنغازي، يمكنك عبر منافذها وشرفاتها رؤية الفندق البلدي وضريح الشهيد عمر المختار ومبنى دار الكُتب الوطنيّة ومدرسة الأمير وشارع الشريف والمعرض الصناعي.
لم يكن الظلام دامساً، كما تخيلت حين رافقني “محمود” عبر درجات العمارة، فقد تدلّى عبر طوابق العمارة المهجورة، منذ اندلاع الحرب في العام 2014، سلك كهربائي تعلقت عبره “لامبات” للإضاءة، حملت شيئاً من الأنس والدفء، “محمود” ساكنٌ وحيد، آثر العودة إلى داره بعد رحيله عنا قسراً قرابة ست سنوات حسب قوله.
استقبلتنا “كارمن” عند باب الشقة مبتهجة بما حمله لها والدها من أنواع الحلويات، يقول “محمود”:”رزقني الله بطفلتين وأنا مغترب في جمهورية مصر، وكنت قد انتقلت إلى عدة أماكن هنا في بنغازي بعد مغادرتنا للمنطقة مع والدي وأشقائي، وتعرضها للقصف والرماية من مختلف الأسلحة، ولم تنجو إلا هذه الشقة التي قمت بترميم أشياء بسيطة فيها قدر استطاعتي”.
يعمل “محمود بوشعالة” مدرساً لمادة الموسيقى في مدرسة الأمير القريبة من محل سكناه، ورداً على ما واجهه من تعليقات تبث الرعب والخوف في المكان وخاصةً بعد غروب الشمس، وحلول الظلام، يصف “محمود” العمارة في وضعها الحالي، بأنها “متحف” أو “قطعة موسيقية” كالّتي يُدّرسها لتلاميذه.
حال “كارمن” ليس كحال الآلاف من مهجّري المدينة من مناطق الاحتراب، فهي لم تشهد بداياتها ولم تعي نهاياتها، يقول “محمود”، ويضيف:”طفلتي حظهما أفضل، فهما لم يصبهما الفزع من أصوات الرصاص وأزيز عربات الموت، وأنباء الاغتيالات، وصراخ الأمهات والأطفال وبكاء الرجال”.
وحدتثني”محمود” وهو يقودني صحبة “كارمن” إلى أحدى الشرفات:”ما يؤلمني هوما مرّ على كارمن، فهي لم تفرح بالاستقرار يوماً، فتنقلنا من مدينة إلى أخرى ومن بيت مؤجر إلى آخر، تسبّب لي في قلق شديد، ومن واجبي أن أحقق الاستقرار لأسرتي، من واجبي أن أوفر لطفلتي مكاناً يكون ملكاً لهما، وهو ما جعلني أصرّ على عودتي، مجتنباً الكثير من عوامل الخوف والانتقاد الغير مبرر”.
أمضى “محمود” سنتان قبل أن يتخذ قراره الأخير، إذ قام خلالها بزيارة العمارة مرات ومرات، يحمل قهوته ويجلس قبالة حائط سقط بالكامل من أحدى القذائف، وفي وسط الركام، كان القرار الأخير بالعودة والانطلاق في تنظيف ما يمكن تنظيفه وإزالة التراب، وتوصيل الكهرباء والمياه للشقة، استطاع “محمود” أن يمهد لأسرته الطريق نحو استقرار شجعته ودعمته حسب قوله زوجته التي اقترن بها وهو مغترب في جمهورية مصر في العام 2018.
ومع الغروب، تنتظر “كارمن” عودة والدها، فهو موعد كان لا يُخلفه، وتحديداً عند الساعة 6 مساءً، حيث تختفي أصوات المركبات العابرة في المنطقة، ويدلهم الظلام، يرتقي “محمود” أدراج السلالم، بعد أن يقفل الباب الوحيد للعمارة، حاملاً ما شاء له القدر أن يحمله، ليضم “كارمن”وشقيقتها، ويعزف لهما أنشودة الأملٍ والفرحٍ المرتقب. (وال – بنغازي) ف م