بنغازي 01 أكتوبر 2023 م (وال) – عندما زارت مساعدة رئيس بعثة مفوضية اللاجئين في ليبيا ” رنا قصيفي ” مدينة درنة في أعقاب الفيضانات المدمرة التي اجتاحت المدن والمناطق في شرق ليبيا، سمعت قصصاً مروعة حول الخسائر في الأرواح، لكنها شهدت أيضاً قصصا تعكس شجاعةً وعزيمةً جسدت تضافر المجتمع الليبي الذي هبّ من كل المدن والمناطق لتقديم المساعدة لإخوتهم المتضررين في المناطق التي طالتها السيول والفيضانات.
فماذا قالت ” رنا قصيفي ” عن تجربتها وفق الموقع الرسمي للمفوضية : وصلت إلى درنة بعد بضعة أيام من انهيار السدين وما نتج عن الانهيار من فيضان لكميات هائلة من المياه جرفت في طريقها أحياء كاملة من المدينة ، وشعرت حينها وكأنه كابوس .. كانت الصخور المنجرفة من الجبال المجاورة متناثرةً فوق الطرقات المدمرة.. وسيول المياه جرفت مباني بأكملها.. لم يكن من السهل عليّ استيعاب حجم الكارثة ووقعها.
أتيت بصحبة زملائي من مفوضية اللاجئين وغيرها من منظمات الأمم المتحدة لتقييم إثر السيول والفيضانات على الأهالي، ولتنسيق تقديم مواد الإغاثة والدعم لعشرات آلاف المتضررين من الفيضانات، وبصفتي رئيسة فريق الحماية لدى المفوضية في ليبيا، كان دوري يتمثل في ضمان تركيز جهودنا في الاستجابة لاحتياجات الناجين والمتضررين والمجتمعات الأهلية التي استضافت العديد منهم.
قضينا أكثر من يومٍ على الطريق، وبعدما قطعنا ساعاتٍ عديدة ونحن نقود سياراتنا على طول ما تبقى من الطريق الرئيسي المؤدي إلى المدينة، ترجلنا من السيارات، وسرعان ما أثقلت أنفاسنا رائحة الموت التي ستظل راسخة في ذاكرتي.
تقول ” قصيفي ” : خلال 19 عاماً قضيتها في المجال الإنساني، عملت فيها في العديد من البلدان التي اجتاحتها الصراعات والدمار في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وفي أوروبا والأميركتين، لكن رغم كل تلك الخبرات التي اكتسبتها، لم أكن مستعدة للتعامل مع المشهد الذي رأيته في درنة ذلك اليوم.
أثناء استعدادنا لتنظيم النواحي اللوجستية لجلب وتوزيع أطنانٍ من مواد الإغاثة، اعترانا الصمت في وجه الدمار الهائل المحيط بنا.. لكن حجم المأساة الحقيقي لم يتكشف لنا، إلا بعد أن سمعنا عن الخسائر في الأرواح والمعاناة التي لحقت بالسكان وهم يرون مدينتهم وقد جرفتها المياه مع ذويهم وبيوتهم.
بعد أيامٍ من زيارتي لدرنة، توجهت لزيارة منطقة ” رأس المنقار ” في ضواحي مدينة بنغازي، وهي المدينة التي استضافت آلاف العائلات التي خسرت كل شيء.. أباء وأمهات وأبناء وبيوتا ومصادر رزقها، كنا هناك لتقييم احتياجات العائلات التي تعيش مؤقتاً في مجمعٍ خاص تبرع به رجل أعمال محلي لاستضافة النازحين من المناطق المنكوبة.
التقيت هناك بناجين أشعرتني قصصهم المروعة بجزعٍ فاق عمقه المشاهد المروعة التي رأيتها في درنة قبل أيام.. كنت هناك لأقدم مواساتي الشخصية لهم، ولأعرف منهم كيف يمكن للمفوضية وشركائها أن تساعدهم بالشكل الأمثل.
التقيت هناك بإحدى الناجيات التي كانت تعيش مع بناتها الثلاثة في منزل والدتها في درنة يوم وقوع الكارثة، وكانت شقيقتها في زيارةٍ للمنزل بصحبة اثنين من أولادها الخمسة أيضاً.
قالت الأم الناجية : نهضت مذعورة في الثانية صباحاً على ضجيج تصادم السيارات ببعضها البعض.. كان الاستيقاظ على مثل هذا الصوت غريباً لدرجة أنني ظننت بأنني أحلم، لكنني كنت أعلم بأنه لم يكن حلماً. نظرت إلى إحدى بناتي التي كانت تنام بجوار النافذة وهرعت إليها لآخذها من هناك قبل أن تتعرض للأذى نتيجة ما كنت أعلم بأنه آتٍ باتجاهنا.. لكنني لم أتمكن من الوصول إليها. ما أن لمست يدي ذراعها، اندفعت مياه الفيضان إلى داخل المنزل وجرفتني إلى الأعلى – فكدت أصل إلى السقف. حاولت التمسك بالأثاث الطافي لأبقى بجوار ابنتي، لكن المياه كانت أقوى مني، ناديت بأعلى صوتي على أختي وأمي وبناتي لأطلب منهن التمسك بأي شيءٍ ممكن، علهن يسمعنني.. وفجأةً، تدفقت المياه عبر النوافذ وجرفت معها كل شيء.
تقول ” رنا قصيفي ” : التقيت لاحقاً بناجية أخرى روت لي قصتها وكيف نجت هي وزوجها لكنها فقدت 21 شخصاً من أفراد عائلتها جرفتهم السيول والفيضانات.. كيف كانت تتأمل في البحر من شرفة بيتها إلى أن سمعت صوتاً مرعباً ظنته زلزالاً.. وقبل أن تدرك حقيقة ما يحدث، باغتتها أمواج عنيفة جرفتها هي وزوجها، قالت الناجية لزوجها في تلك اللحظة بعد أن تمسكت به : إما أن نموت معاً أو ننجو معاً.
وصفت الناجية الوضع وكأن أمواج تسونامي اكتسحت منزلهم ودمرت كل شيء قبل أن تتابع المياه طريقها نحو أسفل الوادي لتدمر المنازل الأخرى وتجرف أحياء كاملة في طريقها.
تقول ” رنا قصيفي ” : كان لسماع هذه القصص وما أبداه الناجون من عزيمة ووقار في وجه الفاجعة أثر عميق في نفسي ونفوس أفراد فريق عمل المفوضية في ليبيا، وزاد من عزمنا على فعل كل ما أمكن لمساعدتهم على تجاوز هذه المأساة ، سواء من تقديم مواد الإغاثة والأدوية ووصولاً لتقديم الدعم النفسي الاجتماعي لمساعدتهم على التعافي من الصدمة.
إن رؤية الجهود المذهلة التي بذلتها المنظمات والفرق المحلية والدولية وتلاحم الأهالي وتضافرهم لمساعدة المتضررين وبعضهم البعض وسط الظروف العصيبة كان له أثر كبير في شعوري بالأمل في تجاوز الأهالي لهذه المأساة.
واختتمت “رنا قصيفي “رواية تجربتها بالقول : إن معالجة الصدمة النفسية والخسائر البشرية الهائلة التي تسببت بها السيول والفيضانات ستكون عملية طويلة الأمد وستتطلب جهودا هائلة .
انحسرت مياه السيول والفيضانات في درنة لكن الفاجعة التي أصابت الناجين لم تنحسر، وعلينا ألا ندخر جهداً في مساعدتهم. (وال) ع ط