تقرير خاص/ منى بو علودة
طرابلس 24 ديسمبر (الأنباء الليبية) – أطلقت (فاطمة م.) زفرة طويلة وهي تخلع معطفها بعد دخولها إلى مكتبها في يوم شتوي ممطر، للتعبير عن تذمرها الشديد من الازدحام المروري الخانق والمرهق الذي تشهده العاصمة طر ابلس معظم ساعات اليوم وإلى ساعة متأخرة من الليل.
وقالت الموظفة العاملة في أحد المصارف التجارية في وسط العاصمة طرابلس (30 عاما وأم لطفلين)، لمراسلة لوكالة الأنباء الليبية التي كانت تجري استطلاعاً عن آراء المواطنين والمسؤولين حول تفاقم ظاهرة الازدحام في العاصمة وضواحيها قائلة: “غادرت بيتي في منطقة السياحية رفقة زوجي وأطفالي حوالي الساعة 7.15 صباحا، ووصلنا إلى المدرسة بعد ربع ساعة وراقبنا دخول الأطفال إلى ساحتها وانطلقنا إلى وسط العاصمة على بعد 6 كيلومترات فقط حيث المصرف الذي أعمل به لنصل عند الساعة 8.45 متأخرة عن موعد الدخول إلى العمل بسبب شدة الازدحام الذي بات لا يطاق والذي يسبب لي إحراجا مع رؤسائي وزميلاتي وزملائي.
تعاني طرابلس أكبر مدن ليبيا من حيث الكثافة السكانية أزمة مرورية خانقة منذ عقود وبشكل يومي بسبب زيادة النمو الديمغرافي وضغط حركة النزوح إلى العاصمة من مختلف المدن والقرى خاصة بعد عام 2011 حيث تجوب شوارعها وأزقتها قرابة ثلاثة ملايين مركبة يوميا، حسب إحصاءات الإدارة العامة للمرور والترخيص.
وقال مصباح الخيتوني، الذي يقطن في منطقة عين زارة (الضاحية الشرقية لطرابلس) ويعمل موظفا بوزارة الزراعة إنه يعاني يوميا من شدة الازدحام للوصول الى مكان عمله مؤكدا أن الطرق الفرعية التي تساعد على تقليل الاختناقات معظمها في حالة سيئة وتزداد سوء في موسم الأمطار.
ورأى المواطن محمد عبد السلام، مدرس يقيم في منطقة الهضبة (الضاحية الجنوبية) أن حركة السير في طرابلس وضواحيها بطيئة جدا ومملة ومتعبة جراء الازدحام الشديد وتساهم بشكل كبير في تراجع المردودية بسبب وصول العاملين متأخرين إلى أماكن عملهم وتجعلهم في مزاج سيء، مؤكدا على أهمية نشر رجال مرور مدربين جيدا لفك الاختناقات وعدم تدخل أجهزة أمنية أخرى غير رجال المرور في إدارة حركة السير على الطرقات وداعيا إلى تطبيق قوانين المرور والسير على الطرقات بصرامة.
وأصبحت ظاهرة الاختناق المرور تضر بصورة مباشرة بالصحة العامة بالفعل، حيث يؤكد أساتذة الصحة النفسية أن الازدحام المروري يؤثر بشكل سلبي في الجهاز العصبي للسائقين والركاب ويسبب الكثير من الأمراض وفي مقدمتها الضغط الدموي، وتزيد حدة السكري لدى الأفراد المصابين بهذا الداء.
ويُوضح هؤلاء الأساتذة أن توقف حركة المرور لساعات طويلة يزيد من توتر السائقين ومن معهم سواء كانوا في سيارات خاصة أو في حافلات النقل العمومي، ويؤثر كذلك في سلوك الفرد، ويُشيرون إلى ملاحظة أن التلاميذ الذين يستقلون السيارات مع آباءهم وامهاتهم سواء إلى المدرسة أو التنزه يتأثرون بما يتأثر به آباؤهم وأمهاتهم من التوتر والتذمر.
ويقضي سكان طرابلس، خاصة الذين يقطنون في الضواحي ويعملون في وسط العاصمة أو في ضاحية أخرى، ساعات طويلة عالقين وسط الزحام وتزيد معاناتهم لإدراكهم بعدم وجود حل يلوح في الأفق القريب وحتى المتوسط لمعاناتهم اليومية.
ويُسبب هذا الكم الهائل من المركبات معاناة متفاقمة لسكان العاصمة في ظل غياب التخطيط العمراني عن المدينة منذ أكثر من 20 عاما وانتشار الأحياء السكنية المقامة عشوائيا بدون أي تخطيط والتي تنبت وتتوسع كل يوم على حساب الغابات (التي كانت تسمى رئة طرابلس) والمزارع والمساحات الخضراء، وسط طرق ترابية تم شقها وفق قانون “الأمر الواقع” بدون أية دراسة وفي غياب كامل لكافة أجهزة الدولة المعنية.
وأصبحت الاختناقات المرورية من بين أهم الإشكاليات التي تشغل بال سكان طرابلس والوافدين إليها من المدن والقرى المجاورة والبعيدة وسط كم هائل من السيارات والشاحنات المتراصة في شوارع المدينة التي لم تطلها حركة التطور منذ عقود، ويعود بعضها إلى زمن الاستعمار الإيطالي، ما يجعل جميع السائقين في حالات عصبية ناهيك عن تلوث الهواء وتعطيل الخدمات.
وقال رئيس مكتب شؤون المرور بطرابلس، العميد عبد الناصر اللافي، في مقابلة مع وكالة الأنباء الليبية في عطلة نهاية الأسبوع إن أسباب الازدحام في طرابلس وضواحيها كثيرة ومتشعبة منها عدم وجود مواصلات عامة باستثناء بعض وسائل النقل الجماعي الخفيف (سيارات أجرة صغيرة أو ما يُعرف بـ “الإيفيكو” التي تقل 16 راكبا)، في حين أن شركة النقل العمومي التي اختفت من طرابلس قبل عقود كانت تستخدم الحافلات التي تقل 52 راكبا جلوسا ومثلهم وقوفا، وكثرة المحلات التجارية وجميعها قائمة على واجهة الطرق والتي لم تتحصل عند منحها ترخيص المزاولة على موافقة إدارة المرور كونها لا تتوفر على مواقف للسيارات، بسبب انعدام التنسيق بين الأجهزة المعنية في الدولة، منها على سبيل المثال المقاهي والمخابز ومحلات بيع المواد الغذائية، والأسواق وصالات بيع الملابس والباعة الذين يشغلون الأرصفة العامة علاوة على استمرار استيراد المركبات الجديدة والمستعملة عشوائيا بدون أية ضوابط تحددها وزارة الاقتصاد والسلطات ذات العلاقة.
وشدد رئيس مكتب شؤون المرور بطرابلس على أن الحل يكمن في تحديث البنية التحتية الطرقية والتزام المواطن بقواعد وقوانين المرور، وضرورة تفعيل النقل العام داخل المدينة والنقل بين المدن واستكمال مشروع الطريق الدائري الثالث الذي سيساهم، حسب قوله، في تخفيف الاختناقات والازدحام وسط طرابلس ويتيح للمركبات والشاحنات التي تسافر بين المدن العبور من خلاله دون الدخول إلى وسط العاصمة، والبدء دون تأخير في إنجاز مشروع القطار الخفيف(المترو) لنقل الركاب وسط العاصمة وبينها وبين ضواحيها الغربية والجنوبية والشرقية.
وأضاف أن غياب التخطيط السليم في شوارع العاصمة التي لم يتم تطويرها منذ أكثر من 40 عاما رغم النمو الديمغرافي والزيادة الكبيرة في عدد المركبات، وعلى الرغم كذلك من تمدد المدينة نحو الضواحي مثل وادي الربيع ومشروع الهضبة وعين زاره وخلة الفرجان، إلا أن وسط المدينة ظل على حاله منذ فترة الاستعمار الإيطالي.
ودعا في سياق متصل إلى ضرورة تشكيل لجنة على مستوي الدولة ما بين إدارة المرور ومصلحة الطرق والجسور، ومصلحة النقل البري لوضع آليات فعالة للتقليل من الازدحام المروري داخل العاصمة وفي مختلف المدن الليبية.
وقالت سارة أحمد موظفة بإحدى شركات الاتصالات وتقيم في منطقة الدريبي، أحد الأحياء السكانية المكتظة في طرابلس، إنها تعاني يوميا من أجل الوصول إلى مكان عملها في شارع الشط وعند العودة إلى البيت وكذلك عند الخروج أحيانا في المساء للتسوق أو لزيارة الأهل والأصدقاء.
ويستخدم أكثر من 75 في المائة من الليبيين سياراتهم الخاصة في التنقل سواء لأماكن عملهم أو للتنزه والزيارات الاجتماعية لثلاثة أسباب رئيسية، امتلاك الليبيين لسياراتهم الخاصة، رخص ثمن الوقود (15 درهما للتر الواحد)، وانعدام وسائل النقل العمومي.
وأكدت دراسات نُشرت على مدى الأعوام الماضية أنه يتعين، لمعالجة مشكلة الازدحام المروري في مدينة طرابلس، العمل على تجنب تركيز الخدمات في العاصمة وتوزيعها على المدن لمنع تجمع المركبات والناس في شوارع العاصمة، تحمل المواطن لمسؤوليته تجاه بلاده ليفهم أن الطريق حق مشترك لكل المواطنين والمقيمين، وأن التوقف في أماكن خاطئة يعرقل حركة المرور.
وتدعو هذ الدراسات إلى ضرورة تفعيل قطاع النقل العمومي وتشجيع القطاع الخاص على الاستثمار في النقل العمومي وإقامة شركات خاصة للنقل العمومي وإعفائها من الضرائب لمدة محددة منها الضرائب على استيراد الحافلات وقطع الغيار، وتشجيع المواطنين على استخدام وسائل النقل العمومي متى توفرت.
كما تشدد هذه الدراسات على بناء الجسور ومدها فوق الشوارع ومنع الاعتداء على الأرصفة والشوارع، وإيجاد مواقف مخصصة للسيارات لمنع الاصطفاف على جانبي الطريق وعدم منح تصاريح بناء عشوائية حتى لا يتم الاعتداء على المساحات المخصصة للشوارع وإلزام جميع مالكي المباني بإنشاء مواقف خاصة وعامة للسيارات وإقامة المجمعات الخدمية والأسواق التجارية وأماكن الترفيه في مناطق بعيدة عن الازدحام.
ورأى المواطن علي محمد (60 عاما موظف بشركة خدمات في وسط طرابلس) أن المسارات الجديدة التي تم فتحها وتوسيع وتنظيم بعض الطرقات في وسط العاصمة وفي منطقة عين زارة ومنطقة الفرناج (الضاحية الشرقية)، خففت إلى حد ما من الازدحام إلا أنه أوضح أن السائقين لا يلتزمون بقواعد المرور خاصة على مستوى ما يُعرف بجزيرة الدوران مؤكدا أن الحركة تتوقف تماما عند جزيرة الدوران في شارع النصر وفي منطقة الظهرة على سبيل المثال في ساعات الذروة بسبب إصرار كل سائق على المرور أولا وعدم تقيده بالأولوية.
وقال في هذا الصدد إنه شاهد السائقين الليبيين عندما يقودون سياراتهم في المدن التونسية التي تعتمد على نظام جزيرة الدوران يلتزمون بمنح الأولوية لأنهم يخشون من دفع المخالفات وبالتالي، يضيف علي محمد، يجب على شرطة المرور في بلادنا تطبيق القانون بصرامة ومعاقبة المخالفين.
وينصح خبراء التخطيط العمراني على ضرورة العمل على فتح مسارات جديدة في مدينة طرابلس والشروع في بناء” طرابلس الجديدة ” بمرافق كاملة عبر التنسيق التام بين مصلحة التخطيط العمراني ووزارة الحكم المحلي ومصلحة الطرق والجسور ومجالس التخطيط الإقليمية والتنسيق التام بين مصلحة الجمارك ووزارة المواصلات لتحديد القدرة الاستيعابية لطرق العاصمة ووقف نزيف المركبات الداخلة إلى البلاد، والبدء فوراً في تقدير عدد المركبات الآلية المسموح بدخولها سنوياً، ومنع المركبات التي يثبت عدم صلاحيتها الفنية من التجول والتقيد التام بالتصنيف العمراني الذي وضعته الدولة وإرجاع المناطق السكنية والزراعية إلى وضعها الأصلي وحظر إقامة أنشطة اقتصادية محددة تزيد من حركة المرور منها بناء المحلات والورش والمصانع الجديدة داخل مدينة طرابلس، وتخصيص فضاءات بعيدة عن المناطق العمرانية لمثل هذه الأنشطة. (الأنباء الليبية)