بنغازي 29 يونيو 2024 (الأنباء الليبية) – ظلام الليل لم يُخفِ جثته، تركته فأنهى حياته برصاصة. قتلها ثم قتل نفسه، ووداعها الأخير كان تهديدًا. ورابع قرر إنهاء حياته في بث مباشر على إحدى منصات التواصل الاجتماعي. قصص أخرى موجعة لرحيل اختاره أحدهم.
صحيفة الأنباء الليبية تستعرض في هذا التحقيق، ظاهرة الانتحار في ليبيا وتسلط الضوء على الأسباب المعقدة والمتشابكة التي تدفع الأفراد إلى اتخاذ هذا القرار المأساوي. وتتناول أيضًا الجهود المبذولة للحد من هذه الظاهرة، والدور الذي يمكن أن يلعبه المجتمع في تقديم الدعم النفسي والاجتماعي للأشخاص الذين يواجهون خطر الوقوف على عتبات الموت اختيارًا.
إحصائيات رسمية للمنتحرين خلال 6 أشهر الأخيرة
بحسب إحصائيات النسب المئوية لعدد حالات الانتحار المسجلة لدى مكتب المعلومات التابع لديوان وكيل وزارة الداخلية بالحكومة الليبية، والتي أعدها المهندس طارق الشحومي، منذ الأول من شهر يناير وحتى 24 يونيو 2024، كانت نسبة الحالات على النحو التالي: بنغازي (44%)، البيضاء (9%)، شحات، أوباري، الأبيار، القبة، الكفرة، ربيانة، توكرة، أمساعد، الجفرة، سبها (2%)، سلوق، قمينس، طبرق (7%)، أجدابيا، المرج (5%). سجلت تلك المناطق 43 حالة انتحار خلال النصف الأول من العام الحالي 2024، بالإضافة إلى 6 حالات تم إنقاذها، ليصبح إجمالي الذين اتخذوا قرار إنهاء حياتهم 49 حالة من بينهم ثلاثة عرب ، وكان النصيب الأكبر للذكور.
جهود حكومية لتفسير والحد من ظاهرة الانتحار
أوضحت رئيس لجنة دراسة ظاهرة الانتح.ار بوزارة الشؤون الاجتماعية بالحكومة الليبية عند الفايدي، للأنباء الليبية: “إن بناءً على كتاب رسمي لوكيل وزارة الداخلية، خاطب وزير الشؤون الاجتماعية مارس الماضي بشأن الوقوف على هذه الظاهرة وأسبابها واستراتيجيات التصدي والمعالجة، وتم تشكيل اللجنة في أبريل بقرار رقم 68/2024 الصادر من وزير الشؤون الاجتماعية بالحكومة الليبية، بهدف دراسة الأسباب والحد من استشراء هذه الظاهرة.”
وأضافت الفايدي: “النصف الأول من العام الحالي 2024 كان فترة دراسة، حيث سجلت مدينتا البيضاء وشحات عددًا لا يُستهان به من حالات الانتحار بين الفئة العمرية من 20 إلى 35 عامًا، بالطريقة ذاتها وهي الموت شنقًا. هذا العام 2024، لاحظنا ارتفاعًا في حالات الانتحار ببنغازي بنسبة 44% من الإجمالي العام، وتفاوت الفئات العمرية بين 11 عامًا و82 عامًا.”
فتيل دوافع الانتحار
وكشفت الفايدي عن الأسباب التي حددها الباحثون في اللجنة أثناء جمع الدلائل قائلة: “لاحظنا أحادية الوسيلة وهي الموت شنقا واختلاف الأسباب، ومن بينها الدلال الزائد وتهديد الأبناء للآباء، الظروف الاقتصادية، انتشار أعراض المس الشيطاني والسحر، الصدمة والفشل العاطفي، الاكتئاب، المشاكل الاجتماعية، تعاطي المخدرات، الابتزاز الإلكتروني، الاقتداء بالأبطال السينمائيين، والتقليد. حيث تم إنقاذ بعض المحاولات وخضوع أصحابها الآن للعلاج النفسي والقرآني”.
الانتحار العنقودي ينتزع المزيد من الأرواح
وبحسب الباحثة في شؤون الأسرة والشباب شيم بوفانة: “أنواع الانتحار الموجودة في ليبيا هي أربعة؛ الأول السري الذي يصل إليه ذويه يجدونه متوفي، الثاني العلني كظهور أحدهم على إحدى منصات التواصل الاجتماعي في بث مباشر وغيره والإعلان عن نيته في الانتحار ومن ثم ينفذه ويقلده المراهقون بحثا عن الشهرة، والثالث الانتحار الأسري أو القتل ثم الانتحار والذي شهدناه شهر رمضان الماضي عندما أقدم أحدهم على قتل زوجته ثما انتحر، أما الرابع الانتحار العنقودي وهو يحتل النسبة الأكبر بين الحالات المسجلة لدينا ويتمثل في كون حالات الانتحار متزامنة في نفس الفترة والطريقة والمنطقة الجغرافية، وهو مؤشر خطير جداً؛ فمن وجهة نظري يؤول إلى التقليد و ليس للعدوى”.
وبينت بوفانة: “أن عادة المنتحر تظهر عليه علامات مسبقة مثل الاكتئاب والشرود الذهني، أو قد تجده يكرر جملة (تو تفتكوا مني قريب)، وفي إحدى الحالات الأسرة كانت منتبهة للأعراض وتم إنقاذ ابنتهم مرتين وفي الثالثة غافلتهم و انتحرت، و للأسف طريقة علاجهم خاطئة ولا يمكننا لومهم، فلقد لجأوا لأحد أهل العلم الذي أخبرهم إن وضعها جيد ولكن في الواقع غافلتهم وانتحرت”.
ونوهت الباحثة شيم بوفانة، الأسرة بأن تنتبه عندما يحدث أي تغير في سلوك أو تصرفات أي من أفرادها و لا يعتبروه عارضا سوف يمضي، إنما عليهم التوجه دون خجل لطلب المساعدة من أهل العلم والاختصاص حتى لا يحدث ما لا يحمد عقباه، مع ضرورة تقوية وتغذية الوازع الديني من خلال مراحل التنشئة الاجتماعية في مراحل الطفولة المبكرة.
كيف يفسر علماء الدين ظاهرة الانتحار في ليبيا ؟
أشار عضو لجنة الإفتاء الشيخ إبراهيم بالاشهر خلال حديثه للأنباء الليبية على أهمية البناء الإسلامي في التربية والأخذ بالأسباب الواردة في منهجنا الدنياوي وفقا لكتاب الله وسنة نبيه – صلوات الله وسلامه عليه: “الثابت في الكتاب و السنة أن السحر والمس حق ويصاب به الإنسان ويضر ولكن هذا الضرر وهذه الأذية إنما تكون بإذن الله سبحانه وتعالى كما قال (ما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله)، لذلك أمرنا بالتعوذ منه والتحصن من ضرره وإيذاءه كما قال الله سبحانه (من شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد)، ولما جاءت إحداهن بغلامها إلى النبي – صل الله عليه و سلم – فضرب النبي – صل الله عليه و سلم على صدره – و كأن به شيء وقال: “أخرج يا عدو الله” لما به من المس.
وأكمل: قد يحصل شيء من ذلك بأن يكون المصاب أصيب بسحر أو مس الشيطاني قد يؤدي به إلى أمور لا يقصدها ولا يريدها، فيغيب عنه العقل و الإدراك ويحصل له شيء من الانتحار وقتل النفس، وهو غير مدرك لما يفعل. لذلك الواجب على الناس جميعاً تحصين أنفسهم، ومن يرى على أحد من أهله أو جيرانه أو معارفه الأعراض النفسية والشيطانية من علامات وإمارات المس والسحر التي حددها أهل العلم، كالضيق أو حصول النفرة عند سماع القرآن والثقل أو الضيق عند أداء العبادة والشعور بالصداع و الألم المستمر في المفاصل، وكذلك قد ينطق عليه الجان نفسه، فمثل هذه الأعراض عليهم أن يهتموا به ولا يتركوه وشأنه لأنه قد يؤثر عليه”.
وحول قضية ارتفاع عدد حالات الانتحار التي تفجع بها عدد من المدن الليبية قال عضو لجنة الإفتاء “هذا الارتفاع الذي حصل ونحن بحمدالله بالنسبة للمجتمعات الإسلامية ليست بنسبة كبيرة لأن الوازع الديني والإيماني موجود، وغالب ما يحصل في المجتمعات غير الدينية والملحدة فلا واعز يمنعه، أما المسلم يعلم حرمة ذلك ويعلم أن الله سبحانه و تعالى قال (و لا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما)، ويعلم قول النبي صل الله عليه وسلم (من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة)، وقول النبي صل الله عليه وسلم إن الله قال في الحديث القدسي (إذا قتل العبد نفسه قال الله بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة)، و مع ذلك فالنسب التي في المجتمعات الإسلامية لا تكاد تذكر وإن كان شيء من ذلك فارتفاعه غالباً ما يكون بسبب قلة الوازع والضعف الإيماني وما يكون من هموم وضيق، فيلبس عليه الشيطان الوساوس وأيضاً قد يكون في بعض الحالات للمس والسحر دور في ذلك”.
إرشادات عالمية لخفض معدل الانتحار في العام 2030
بحسب منظمة الصحة العالمية، كان الانتحار رابع سبب رئيسي للوفاة بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عامًا، وأصدرت المنظمة إرشادات شاملة لتنفيذ نهج “LIVE LIFE” للوقاية من الانتحار، تشمل الاستراتيجيات الحد من الوصول إلى وسائل الانتحار، تثقيف وسائل الإعلام بشأن التغطية المسؤولة، تعزيز المهارات الاجتماعية والعاطفية لدى المراهقين، والتعرف المبكر على أي شخص يتأثر بالأفكار والسلوكيات الانتحارية وتقييمه وإدارته ومتابعته.
في الختام ..
في ظل الأزمات المتتالية التي تعصف بليبيا، تتفاقم التحديات النفسية والاجتماعية التي تواجه المواطنين. وتزداد الأوضاع الاقتصادية سوءًا، وتتفاقم الضغوط النفسية، مما يدفع العديد من الأفراد إلى حافة اليأس. تبرز ظاهرة الانتحار كإحدى النتائج المأساوية لهذه الأزمات، موجهةً الضوء نحو الحاجة الملحة لدعم الصحة النفسية وتعزيز الوازع الديني في المجتمع الليبي. (الأنباء الليبية – بنغازي) هــ ع
تحقيق: هدى الشيخي
تصوير: وليد الحفار