البيضاء 14 يوليو (الأنباء الليبية) – أرسل الحاج سعيد المايح، (78 عاما، مزارع من منطقة قرنادة شرق مدينة البيضاء)، تنهيدة عميقة عكست صوت قلبه وهو يجثو مرهقا وبقايا من إحباط وضرب كفا بكف متحسرا على الصورة التي أصبح عليها الجبل الأخضر، وقال: “لم أعد أشتم عند الفجر رائحة الأرض ومزيج العطور المنبعثة من الأعشاب وأوراق الأشجار ولحافها التي تعبق في الفضاء مع خيوط الشمس الأولى”.
بدأ التصحر يزحف على منطقة الجبل الأخضر جراء عوامل بشرية وطبيعية عدة منها، التغيرات المناخية وارتفاع حرارة الكوكب، القطع الجائر للأشجار ونزع الصبغة الزراعية دون قيود ما أدى إلى انحسار المساحات الخضراء وتحول الكثير منها إلى كتل إسمنتية، وفقدان الحياة النباتية والتنوع الحيوي وفقدان طبقة التربة السطحية وقدرة الأرض على الإنتاج الزراعي ودعم الحياة الحيوانية من حيث توفر المرعى، والبشرية من حيث تأمين الموارد المالية.
وأضاف الحاج المايح، في مقابلة مع صحيفة (الأنباء الليبية)، أن المناخ أصبح اليوم شبه صحراوي في المنطقة الخضراء وارتفعت درجة الحرارة بشكل كبير وملحوظ، إضافة إلى أن الأمطار أصبحت تأتي في غير مواعيدها ناهيك عن ظهور أمراض جديدة غزت المنطقة منها العناكب والمن الزغبي والقشرة.
وقال المزارع :”إن الأسمدة التي تستوردها الشركات الخاصة وتسوقها عبر قنوات السوق السوداء طالها الغش علاوة على ارتفاع الأسعار وضعف جودة المنتج ما أدى إلى تقلص المحاصيل وضعف الغطاء النباتي”.
وأشار المايح، إلى أن الدولة دعمت في السابق المزارعين في بداية عملية التطوير الزراعي ووفرت منتجات ممتازة من السماد من بريطانيا وألمانيا وتونس إلا أن هذا الدعم توقف سنة 1995 فتوجه المزارع إلى السوق السوداء التي توفر أسمدة مغشوشة مستوردة من الصين خاصة، تسببت في أضرار كبيرة حيث أصبحت التربة مستهلكة ونقصت دورة النيتروجين فيها ولا يوجد أسمدة عضوية بديلة لعلاج التربة المتهالكة.
اشتكى المزارع، من شح المياه المستخرجة من الآبار الجوفية مشيرا إلى أن تكلفة حفر البئر تصل اليوم إلى 175 ألف دينار، حيث استطاع بعض المزارعين الذين لديهم الإمكانيات من تعميق آبارهم أو حفر آبار جديدة واستسلم العدد الأكبر من المزارعين إلى الأمر الواقع، في حين لم توفر الدولة بديلا لشح المياه.
وأوضح المايح، أن الآبار المشتركة التي شيدتها الدولة لم تكن قادرة على تغطية كل المزارع مشيرا إلى أن مزارع كثيرة لم تصلها مياه هذه الآبار أساسا، علاوة على مشاكل انقطاع الكهرباء وما يترتب عنها من أضرار على المضخات الكهربائية وانعكاس ذلك على عمليات الري خاصة في فصل الصيف.
وأكد، أن المزارعين في منطقة الجبل الأخضر يواجهون اليوم تحديات كثيرة وصعوبات في توفير البذور المناسبة للمناخ والتربة بدلا عن النباتات والبذور المهجنة المتوفرة في السوق السوداء ناهيك عن نقص الخبرة لدى المزارعين ما شكل السبب الرئيسي والأكبر في عدم استمرار الحياة النباتية والزراعة الاستراتيجية في المنطقة، خاصة إنتاج القمح والشعير.
ليبيا بلد صحراوي بالأساس إلا أنها تنعم بمنطقة غابات نادرة في الشمال الشرقي تشطرها أودية تسمى غابات الجبل الأخضر مركزها مدينة البيضاء شرق ليبيا.
وتمتد سلسلة تلال الجبل الأخضر من بنغازي إلى درنة في شمال شرق ليبيا، لمسافة تصل إلى 350 كيلومترا على ساحل البحر المتوسط، وتعرف هذه التلال بتنوعها النباتي إذ يوجد بها 70 بالمائة من النباتات الليبية بالإضافة إلى أنها تضم العديد من المواقع الأثرية.
وتغطي منطقة الجبل الأخضر مساحة تصل إلى 943 ألف هكتارا فيما تشكل الغابات نصف هذه المساحة، وفقا للهيئة العامة للزراعة والثروة الحيوانية والبحرية بالحكومة الليبية. وتبين من خلال تقرير لجهاز الشرطة الزراعية أن ما بين عامي 2005 و2019 فقدت المنطقة 14 ألف هكتار من الغابات.
وأبلغ رئيس مكتب الشرطة الزراعية لفروع الجبل الأخضر، العميد ناصر بوعجيلة، صحيفة (الأنباء الليبية) أن فقدان المنطقة لمساحات كبيرة من الغابات تسارعت وتيرته عقب 2011 حيث شجعت الاضطرابات وحالة الفوضى، الكثير من الليبيين على القطع الجائر للأشجار فضلا عن البناء العشوائي في هذه المنطقة.
وأوضح بوعجيلة: “لقد دفع الوضع الأمني المتدهور والفوضى وانتشار السلاح بالإضافة إلى الحاجة إلى المال، الكثيرين إلى قطع الأشجار في هذه المنطقة لبيعها كأخشاب”.
وأشار إلى أنه رغم تزايد عدد الشكاوى، إلا أن ضباط الشرطة في المنطقة يعانون من نقص الإمكانيات من أجل تطبيق القانون ومواجهة المخالفين الذين عادة ما يكونوا مسلحين.
وحدد القانون الليبي عقوبة قطع الأشجار وتحويلها إلى (فحم) بغرامة تتراوح ما بين 500 و1000 دينار ليبي (أي ما يعادل ما بين 93 و186 دولارا بسعر السوق الموازية)، وهو ما أثار استنكار أفراد جهاز الشرطة الزراعية، ويقول بوعجيلة: “هذه العقوبة لا تتناسب مع فداحة الضرر الناجم عن هذه الأفعال”.
وقال ليبيون يقطنون منطقة الجبل الأخضر إنهم بدأوا يشعرون بتداعيات مباشرة لظاهرة التغير المناخي في السنوات الأخيرة، خاصة ارتفاع درجات الحرارة وانحسار الأمطار ومؤخرا الفيضانات.
أفاد مكتب وزارة الشؤون الاجتماعية في مدينة البيضاء -إحدى أكبر مدن منطقة الجبل الأخضر – أن الفيضانات التي اجتاحت المنطقة بشكل مفاجئ في عام 2023 دمرت 85 منزلا وألحقت الضرر بمئات المنازل داخل مدينة البيضاء، وحولت 80 في المائة من مدينة درنة إلى ركام ناهيك عن جرف الأشجار والتربة في مناطق عدة على امتداد سلسلة الجبل الأخضر إلى قاع البحر ما تسبب أيضا في إلحاق أضرار كبيرة بالثروة البحرية بسبب المخلفات التي تراكمت في البحر.
-تأثير التغير المناخي على المنطقة
تعد منطقة الجبل الأخضر، من أكثر مناطق ليبيا رطوبة إذ يمكن أن يصل هطول الأمطار فيها إلى أكثر من 600 ملم في العام مقارنة بـ 50 ملم في باقي المناطق الليبية.
ويُنظر إلى زيادة نشاط إزالة الغابات باعتباره عنصرا رئيسيا في زيادة مخاطر تعرض المنطقة للفيضانات.
وفي هذا السياق يقول الناشط والباحث البيئي الليبي عبد السلام قويدر إن “المساحات التي تعرضت لقطع الأشجار لا يمكنها امتصاص الأمطار كما كان الحال في الماضي، حيث تحركت المياه الناجمة عن الأمطار الغزيرة تجاه المناطق السكنية فضلا عن تغيير مسارات وطرق الأودية بسبب نشاط البشر”.
واشتكى سكان هذه المنطقة مؤخرا من ارتفاع درجات الحرارة وهو ما أشار إليه عبد الله صالح العقوري، (مدرس في مدرسة قصر ليبيا) في منطقة الجبل الأخضر.
وقال العقوري إن “الضرر الأكبر الناجم عن القطع الجائر للأشجار يتمثل في ارتفاع درجات الحرارة في الصيف. فالأشجار كانت تساعد في تبريد وترطيب الطقس خاصة عندما نعاني من انقطاع التيار الكهربائي”.
وشهدت المنطقة في بداية الشهر الجاري اندلاع حرائق في الغابات جراء ارتفاع درجات الحرارة.
وبالفعل شهدت منطقة الجبل الأخضر تحولا مناخيا وطبيعيا خلال السنوات الأخيرة وهي المنطقة المخصصة للزراعة الاستراتيجية من قمح وشعير وأشجار مثمرة مثل التين والزيتون والعنب والتفاح والكمثرى وأنواع كثيرة من اللوزيات والنباتات الشوكية مثل التين الشوكي المعروف محليا بـ”الهندي”.
ولوحظ أنه في غياب الدولة وانعدام النظام والأجهزة الرقابية والهيئات الإدارية حدث تسيب وانفلات في النظام الإداري الزراعي ما أدى إلى إلحاق أضرار كبيرة بالثروة النباتية فترتب على هذا الأمر عواقب وخيمة أبرزها زحف التصحر الجاري الآن بشكل ملحوظ وبوتيرة تبعث عن القلق.
ويقول الخبراء، إن ارتفاع نسبة الرطوبة وانخفاض مستوى الأمطار أدى إلى ضعف إنتاجية الموارد المائية وأهمها الآبار الجوفية فقد تسبب هذا الوضع في انخفاض نسبة استخراج الماء من باطن الأرض بمعدل 5 لتر في الثانية الواحدة حيث كانت إنتاجية البئر الواحد من 7 إلى 12 لترا في الثانية الواحدة قبل 10 سنوات وأصبحت تتراوح اليوم بين 2 و6 لتر في الثانية الواحدة، بحسب الموقع وعمق البئر في حين جفت الكثير من الآبار تماما.
تبين من خلال البحث والتدقيق في ملكية الأراضي وكيفية استغلالها وفق استراتيجية تكون فيها الثروة الزراعية من أهم موارد الدخل للدولة الليبية وللمزارعين وعامة قاطني هذه الأرض، أن الدولة الليبية وضعت قبل 2011 ضوابط وقوانين لكل الأراضي المملوكة للدولة، وأصدرت قرارا خاصا بحماية الأراضي الزراعية التي قامت بتطويرها ووزعتها على المزارعين حيث كانت مساحة المزرعة تتراوح ما بين 40 و 160 هكتارا وزودتها بمعدات زراعية منها جرار زراعي و خزان مجرور للمبيدات الحشرية المجرور و جرار لنقل المنتجات وطقم محاريث لتسوية التربة وتهيئتها وتجهيزها للزراعة ناهيك عن بناء بيت ومخازن وحضائر للحيوانات (الأبقار والأغنام)، وبناء موقع لتربية الدواجن وحفر آبار للمياه الجوفية.
كما تم تزويد المزارعين بحبوب القمح والشعير وبآلاف من شتول الأشجار المثمرة لكل مزرعة إلى جانب توزيع عدد 2 بقرة نوع (جرسي) وعدد من الطيور الداجنة ومن رؤوس الأغنام.
وأوضح عضو الهيئة التنفيذية لمشروع الجبل الأخضر الزراعي، التابع للمؤسسة العامة للإصلاح الزراعي وتعمير الأراضي، سالم بوعيسول الحاسي (75 عاما) أن هذا المشروع ينقسم إلى شقين، الإصلاح الزراعي ومشروع الغابات والمراعي، أنشئ عام 1970 بقرار حكومي حيث تم تنفيذ مشروع “الإصلاح الزراعي” في عدة مواقع، منها مشروع المرج والمعروف بـ “نطع المرج” مشروع الجبل الأخضر ، البيضاء ، شحات ، المنصورة ، الوسيطة ، قرنادة، الصفصاف، الفايدية، لالي، ومشروع الفتايح درنة، ومشروع جنوب الجبل الأخضر، المخيلي، العزيات، الثعبان، الخروبة.
وقال، إن مشروع “الغابات والمراعي” يتمثل في زراعة “الغابات” داخل محميات مسيجة والحفاظ عليها وتطويرها عبر السنوات بدعمها بمشاتل للتحصين وإنتاج الشتل لكي تستمر دورة الحياة فيها مبينا أنه تم دعم “المراعي” بالقروض الرعوية مثل بناء المساكن وحفر الآبار وبناء السدود الحجرية لمقاومة انجراف التربة من العوامل الطبيعية كالسيول التي تخلفها الامطار.
وأوضح أنه بعد إتمام المشروع والبدء في عملية جني الثمار تفاجأ المزارعون بعدم توفر قنوات تسويق داخل ليبيا وخارجها بالإضافة إلى استيراد الدولة منتجات مثل الدقيق والحبوب كالقمح والشعير والذرة ناهيك عن استيراد التجار للفواكه المختلفة التي يتم زراعتها في ليبيا ما تسبب في انخفاض أسعار السوق المحلي وأصبح المزارع يقوم بعملية تسويق منتجاته بخسائر كبيرة.
وأكد الحاسي، أن المزارعين اضطروا بسبب ذلك للتوجه من زراعة القمح والشعير والأشجار المثمرة إلى الزراعة الورقية مثل الطماطم والبصل والفلفل والخيار والكوسا وغيرها من الخضروات الورقية التي تتهلك الكثير من الماء.
- موروث وطني يناشد الاهتمام
يواجه الجبل الأخضر الذي يُمثل موروثا وطنيا وحضاريا بامتياز وبديلا اقتصاديا مهما للدولة في تقليص الاعتماد على موارد النفط وجلب الاستثمارات المحلية والدولية، في المجالين الزراعي والسياحي، وتوفير آلاف مواطن الشغل للشباب، تحديات كبرى بسبب الأنشطة الجائرة للإنسان وعوامل الطبيعة والتقلبات المناخية، ومن هنا تبرز العديد من الأسئلة المشروعة والعاجلة لإنقاذ هذه الرئة المصيرية لمستقبل ليبيا، على رأسها، هل ستتمكن الأجهزة الأمنية المختصة من القضاء على ظاهرة قطع الأشجار، والحد من تداعياتها؟ وما هي الوسائل التي يتعين حشدها للقضاء على عملية التصحر في المنطقة؟ وهل ستلتزم الأجهزة الأمنية بتنفيذ إجراءات صارمه تردع كل مخالف للقانون؟ وهل سيحرص المواطن على المحافظة على بيئته التي يقطنها للحد من ظاهرة التصحر التي اجتاحت الجبل الأخضر الأشم؟ وهل ستلتزم الجهات المسؤولة في الدولة كل فيما يخصه بتعهداتها اتجاه الجبل الأخضر خاصة فيما يتعلق بالسدود والجسور والغابات والمياه الجوفية؟ وهل سيتم العمل من خلال الدولة على دعم وتطوير كفاءة الفلاح الليبي عبر برامج توعوية وورش عمل زراعية مع الدعم الكامل واللامحدود للثروة النباتية والحيوانية في ليبيا؟ (الأنباء الليبية).
متابعة: غيث نوري اسباق حمد، مهاب رمضان العمامي، رواد بشير العجيلي