طرابلس 10 أغسطس 2024 (وال) – يواجه قطاع الثروة البحرية في ليبيا مخاطر جمة أبرزها عمليات الصيد الجائر دون مراقبة في غياب مؤسسات الدولة والفوضى الأمنية التي انزلقت إليها بلادنا منذ عام 2011 ومكنت من توسيع استخدام المتفجرات محلية الصنع المعروفة محليا بـ (الجلاطينة) على نطاق واسع وتهريب الأسماك إلى الخارج بسبب تدهور سعر صرف الدينار الليبي.
لم تكن ثقافة استهلاك السمك في بلادنا التي تتمتع بأطول شاطئ على حوض البحر المتوسط (حوالي 2000 كلم) رائجة ولم يشكل السمك أحد مكونات الطبق الشعبي الليبي حيث اقتصر استهلاك المنتجات البحرية على بعض سكان المدينة القديمة في طرابلس وسكان مدينة زوارة الساحلية القريبة من الحدود الليبية التونسية، الذين تعايشوا مع اليهود، إذ أن غالبية الشعب الليبي تعود إلى أصول بدوية تفضل استهلاك اللحم في عاداتها وتقاليدها.
وتساءل الكثير من المؤرخين والخبراء في عدة دراسات كيف يُمكن أن تضرب المجاعة الشعب الليبي، في نهاية القرن التاسع عشر وخلال الحربين العالميتين الأولى والثانية وحتى ستينيات القرن الماضي قبل ظهور النفط، وتُضطر الليبيين على الهجرة، رغم أن الله حبا بلادنا بساحل، هو الأطول على حوض المتوسط، غني بالثروة السمكية.
غير أن ثقافة استهلاك السمك في المجتمع الليبي بدأت تترسخ إلى حد ما في ثمانينيات القرن الماضي مع توسع استقدام الأجانب لتنفيذ مشاريع التنمية، ثم توسعت في تسعينيات القرن الماضي مع انتشار القنوات الفضائية وتعمقت بعد توسع استخدام شبكات التواصل الاجتماعي، ما أدى إلى زيادة الطلب وارتفاع الأسعار دون أن يُصاحب ذلك تطور في البنى التحتية للصيد البحري وتأهيل الكوادر المتخصصة وتشجيع الاستثمار في هذا القطاع الحيوي الذي يُمكن له أن يُوفر آلاف مواطن الشغل ويُقلل من الاعتماد على دخل النفط، الثروة غير المتجددة.
عواقب الصيد الجائر
قال مدير مكتب الحماية والتفتيش البحري بوزارة الثروة البحرية حمزة الحامدي إن تأثيرات الصيد الجائر والصيد بـ (الجلاطينة) له عواقب وخيمة منها تصحر البيئة البحرية ومنعها من التكاثر والنمو طبيعيا.
وأضاف الحامدي في تصريح لوكالة الأنباء الليبية أن الصيد الجائر بات يخضع لاتفاقية التدبير التي تتخذها الدول لمحاربة الصيد غير القانوني وهي اتفاقية دولية انضمت ليبيا إليها عام 2018.
وأوضح أن مكتب الحماية والتفتيش على تواصل مستمر بغرفة العمليات الرئيسية بالموانئ البحرية وابلاغهم بكل الحالات غير القانونية التي يتم ضبطها.
وذكر مدير مكتب المعلومات والتوثيق الفني بوزارة الثروة البحرية فراس الجابري من جهته أن مشكلة الصيد الجائر وغير القانوني مشكلة قديمة لكنها ساءت في الآونة الأخيرة نتيجة تردي الأوضاع الأمنية.
وأردف الجابري أن الوزارة تسعى من خلال التعاون مع المنظمات الدولية مثل منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، (الفاو)، ومنظمة مكافحة الصيد غير القانوني لإيجاد حلول مع الجهات المعنية منها خفر السواحل ورئاسة الأركان البحرية للبحث عن حلول مشتركة لإيقاف عمليات الصيد غير القانوني بما يضمن حماية الثروة البحرية الليبية.
وأكد الجابري أهمية الدور الإعلامي في التوعية وتحسيس المواطنين من حيث نشر ثقافة حماية المخزون المحلي من عمليات الصيد الجائر وغير القانوني بالمتفجرات والشباك ذات المقاسات غير القانونية ما يتسبب في تصحر بعض المناطق البحرية مشيرا إلى أن دور الإعلام مهم لنشر التوعية وحماية الثروة السمكية.
محاربة الصيد الجائر
كشف مدير إدارة الشؤون الإدارية والمالية، محمد عمر حافظ، أنه تم تشكيل لجنة خاصة بمحاربة الصيد الجائر تتعاون مع منظمات دولية مختصة إلا انها لم تتوصل إلى أية نتائج حتى الآن.
وأردف أنه تم تخصيص 70 مليون دينار عام 2021 للمرة الأولى منذ العام 2011 لتطوير البنية التحتية للصيد البحري حيث نُفذت أرصفة وسوق في درنة على وشك الانتهاء ومقر جديد في بنغازي.
وأضاف حافظ ان المنطقة الوسطى، سرت ظلت مهمشة، ولم يتم تنفيذ أية عملية صيانة أو تطوير وكذلك عدم تنفيذ أية مشروعات جديدة بسبب الانقسام السياسي مشيرا إلى وجود مجمع تبريدي في سرت تم تحويله إلى ثلاجة للموتى جراء الحروب، غير أنه أشار إلى قيام الحكومة الليبية في شرق البلاد حاليا ببناء سوق للأسماك بمواصفات حديثة.
وكشف في سياق متصل أن مرفأ الصيد التقليدي في منطقة قرقارش (غرب العاصمة) المعروف بـ “القصرية” أزيل للمصلحة العامة جراء تنفيذ الطريق البحري الجديد ولم يتم حتى الآن التفكير في إعادة تأهيله.
ورأى حافظ أهمية التغطية الإعلامية لبعض المشاريع التطويرية التي نفذتها الوزارة منها سوق بيع الأسماك (النادي البحري) الذي أشرفت وزارة الثروة البحرية على إنشائه إلا أنه اشتكى من عدم قيام مستخدمي السوق بدفع الإيجارات الشهرية الرمزية للحفاظ على السوق وصيانته.
جواز المرور البحري
وقال المهدي الشريف (صياد سمك 44 عاماً يمارس المهنة منذ 25 سنة) في تصريح لـ (وال) إن الإجراءات الأمنية في نقطة التفتيش المخصصة للصيادين الخارجين للصيد ليست مشددة مشيرا إلى أن الأجانب أصبحوا يتحركون بدون الوثائق الخاصة بالمرور (ما يُعرف بجواز المرور البحري) إذ لا يتم تسجيلهم في معظم الأحيان عند مغادرة نقطة التفتيش على عكس الإجراءات التي كانت سارية في السابق وتمنع ركوب البحر والخروج للصيد إلا بعد الاستظهار بجواز المرور البحري.
وأكد المهدي وجود عمليات واسعة لتهريب السمك إلى تونس عبر شبكات تتخللها عمليات فساد وشراء ذمم، نظرا لتدهور سعر صرف الدينار الليبي وكشف في هذا الصدد أن التجار يقومون بشراء السمك من البحارة في المساء وحفظه في السيارات المجهزة بالمبردات ليقوموا ببيعه في سوق الجملة عند الساعات الأولى للصباح حيث يتم فرز ما يُباع في السوق المحلي وما يُهرب إلى الخارج.
وأوضح المهدي أن الأنواع التي يتم تصديرها إلى تونس هي (الدوت ـ الدندشي ـ الفروج ـ القرنيط ) ويتم في المقابل جلب سمك (الوراتة) المجمدة المنتجة في المزارع من تونس التي تلقى رواجا كبيرا في السوق الليبي ما ساهم في ارتفاع سعرها نظرا لنقص الوراتة (الحرة).
وأشار المهدي إلى أن انتشار استعمال الأدوات غير القانونية في ظل غياب الأجهزة الرقابية بكثرة في الصيد مثل (الجلاطينة) يؤدي إلى أضرار كبيرة منها تغير ملامح المكان المستهدف وتدمير مراعي الأسماك والقضاء على الأعشاب البحرية ما يجعل الأسماك تهجر هذا المكان نهائيا مضيفا أن (الجلاطينة) لا تفرق بين ما يمكن صيده في ذلك الوقت وما لا يمكن مؤكدا أن هذه المتفجرات تُستخدم حتى في موسم البيوض والتلقيح والإخصاب ما تسبب في انقراض بعض الأنواع في الساحل الليبي.
وأردف المهدي أن أغلب الصيادين يعانون من بعد قواربهم عن الرصيف المخصص لربط القوارب (البنكينة بلغة الصيادين) ما يكلفهم الكثير من الوقت والجهد رغم مخاطبتهم للجهات المسؤولة بتوفير أرصفة متحركة عائمة فوق سطح البحر (بنطوني بلغة البحارة أيضا) لربط القوارب إلى جانب استخدامه في شحن قوارب الصيد وتفريغها.
أسواق الأسماك
يشار إلى أن انتشار أسواق الأسماك في ليبيا جاء على عدة حقب زمنية، فمنها ما أنشئ في العهد العثماني ومنها ما بُني خلال الاحتلال الإيطالي وهناك أسواق حديثة العهد ومن بين أهمها سوق باب البحر للأسماك والنادي البحري وسوق الحوت طرابلس الكائن في شارع الرشيد وسوق الحوت في مدينة بنغازي وسوق المرسى في الخمس وسوق زوارة للأسماك.
وقال محمد شعير، (20 عاما، بائع قطاعي في سوق باب البحر للأسماك بطرابلس)، إن سوق الأسماك غير ثابت حيث يكون السحب أحيانا كبيرا وفي بعض الأيام يقل الطلب بسبب ارتفاع الأسعار، إما لقلة العرض أو لتصدير الأسماك إلى الخارج بكميات كبيرة.
وأوضح شعير أن من بين أبرز الأسباب لارتفاع أسعار الأسماك في سوق القطاعي ارتفاع أسعرها في سوق الجملة خاصة عندما يزيد الطلب من أصحاب المطاعم واستعمال كميات كبيرة من الثلج بين 10 و15 شكارة، للفرش المعد لحفظ الاسماك من التلف عند عرضها في السوق مشيرا إلى أن سعر الشكارة الواحدة يبلغ 10 دنانير بالإضافة الى أجرة عمال النقل من سوق الجملة إلى الفرش.
وأضاف أن ارتفاع الأسعار في سوق الجملة حاليا، خاصة سعر صندوق سمك السردين والكوالي (التي تُعتبر من أسماك الدرجة الثالثة)، ويقبل عليه ذوو الدخل المحدود، وصل إلى270 دينارا في حين أن سعره من المفترض أن يتراوح بين 50 و 100 دينار، وأرجع ذلك إلى استخدام الصادين للسردين في طعومهم لصيد سمكة التونة (موسمها من يونيو إلى أغسطس)، مضيفا أن سعر سمكة التونة يشهد ارتفاعا كبيرا على غير المعتاد بسبب كثرة الطلب عليها حيث وصل سعر الكيلو إلى 35 دينارا للهبرة و 75 دينارا للحمة بطن السمكة (البنجيتة).
وقال الطاهر مراجع (بائع جملة في سوق باب البحر للأسماك):” نحن في سوق الجملة طرابلس تأتينا الأسماك من أغلب المدن الليبية مثل طبرق وبنغازي وسرت وزوارة، ويعتبر السوق المركزي في ليبيا، حيث يتم فرز الأسماك حسب طريقة الصيد (بواسطة الشباك أو الصنارة أو الجرافة)، وبعدها يتم توزيعها على باقي مناطق ليبيا، أو للتصدير.
وذكر الطاهر أن سوق السمك في طرابلس مرتبط بباقي الأسواق ورأى أن من بين أبرز العوامل التي أدت إلى غلاء أسعار الأسماك زيادة تكلفة المواد التشغيلية للجرافات وعدم توفر قطع غيارها التي تعتبر باهظة الثمن أيضا، في غياب أي دعم من الحكومة.
أنواع وافرة من الأسماك
ويحظى الساحل الليبي بأنواع وافرة من الأسماك ذات الجودة الممتازة التي تميزه عن غيره من السواحل على المتوسط نظرا لعدم المصانع الكبرى التي تصب مخلفاتها في البحر ما يزيد من نسب التلوث، ومن أهم هذه الأنواع (التونة والشولة والدندشي والدوث والفروج والبيشي سباطة والباقرو والطنينة والرزام والوراتة الحرة أو الورقة والقاروص) بالإضافة إلى تميزه بالرخويات البحرية ذات الجودة العالية كالأخطبوط(القرنيط) والجمبري والكابوريا (السلطعون أو سرطان البحر) والسيبيا والكليماري.
وتتوفر ليبيا على ثروة سمكية بحرية مهمة تجعلها من بين أغنى الدول في البحر المتوسط إلا أن ضعف الأجهزة الرقابية والأمنية على الساحل الليبي يجعل من ضعاف النفوس الباحثين عن الأموال بالطرق غير القانونية يواصلون استنزاف هذه الثروة ويُدمرون البيئة البحرية الليبية.
وجاء في احصائيات لمكتب الإعلام بوزارة الثروة البحرية التي اطلعت عليها (وال) أن كميات الإنتاج المستلمة من المكاتب الساحلية خلال الفترة من 01 من يناير 2023 إلى 31 ديسمبر 2023 بلغت (8,323) طنا في حين بلغت في الفترة 01 يناير 2024 الى 30 يونيو 2024 (3,591) طنا، وهي كميات بسيطة جدا أمام ما تتوفر عليه السواحل الليبية من ثروة سمكية هائلة ومميزة، قد تكون، إذا تم استغلالها الاستغلال الأمثل، من بين أبرز مصادر النمو البديلة للنفط الذي يعتمد عليه الاقتصاد الليبي بنسبة تصل إلى أكثر من 95 في المائة كمصدر للدخل والانفاق العام للدولة.
متابعة: عبد الملك الجفايري – محمد الزرقاني
تصوير : فتحي شلفيط