بنغازي 02 سبتمبر 2024 (الأنباء الليبية) -شهد المجتمع الليبي تحولات لافتة خلال السنوات الأخيرة، حيث بدأت تتفاقم بعض الظواهر الاجتماعية التي لم تكن موجودة من قبل، أو كانت قائمة ولكن بمعدلات منخفضة، وفي مقدمتها ارتفاع معدلات العنوسة، وعزوف قطاع كبير من الشباب والفتيات عن الزواج، أو عدم قدرتهم على بناء أسرة، إما لأسباب اجتماعية أو اقتصادية، أو غيرها من الأسباب التي تحول دون اللجوء إلى الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهي الزواج، وهو ما يرجعه كثير من الخبراء إلى جملة من الأسباب والتداعيات، وسط تحذيرات من تفاقم مثل هذه الظاهرة التي تضر بتماسك المجتمع وتنبئ بتبعات وأهوال تحتاج إلى خطط مجتمعية عاجلة.
المثير في هذه الظاهرة تزامنها مع ارتفاع معدلات الطلاق بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة، وهو ما دفع صحيفة “الأنباء الليبية” إلى فتح هذا الملف لمعرفة أسباب عزوف الشباب الليبي عن الزواج، أو اختياره الانفصال بعد أعوام قليلة من الزواج، لا سيما وأن المجتمع الليبي كان معروفًا بعاداته وتقاليده العربية والإسلامية التي تعلي قيم تأسيس الأسر وبنائها على منهج تربوي واجتماعي قويم.
-أسباب تأخر الزواج بين الفتيات
تتعدد الأسباب التي تدفع كثيرًا من الفتيات الليبيات إلى العزوف عن الزواج أو تأخيره، حيث تشير دراسة للباحثة رهام فرج إبراهيم، نشرتها مجلة العلوم والدراسات الإنسانية بجامعة بنغازي تحت عنوان “تأخر سن الزواج عند الفتاة الليبية: دراسة نظرية نقدية” إلى أن تأخر الزواج لدى الجنسين قد يكون بسبب “غلاء المهور وارتفاع تكاليف الحياة، بالإضافة إلى النظام الاجتماعي السائد الذي قد يفرض اشتراطات محددة على الرجل والمرأة قد تحول دون الزواج في سن مناسبة”.
وتقول الدراسة إن الزواج يعد أرقى آلية ضبط يبتكرها الإنسان في ترسيخ الغريزة الجنسية، لأن الزواج هو وسيلة ضبط لهذه الغريزة حسب معايير استمرار وجود مجتمع منظم، لذا اهتم الإسلام بالزواج بأن جعله ميثاقًا غليظًا، وجعل له أحكامًا دقيقة وواضحة، وضع له نظمًا ترتقي بالجنس البشري.
-الاضطرابات السياسية والحروب
وتقدِّر بعض الإحصائيات غير الرسمية عدد الفتيات من دون زواج في ليبيا بنحو 300 ألف فتاة، بما يعادل نسبة 30 بالمائة، وهو رقم مرشح للارتفاع، وسط تحذيرات من أن الاضطرابات السياسية والحروب قد تسبب عزوف المئات عن الزواج، إما لعدم رغبتهم في إنجاب أطفال في بيئة صراعية، أو بسبب عدم ثقتهم في المستقبل الذي خيم عليه شبح الانقسام السياسي في البلاد وتكرار المواجهات المسلحة بين المجموعات المنتشرة في أكثر من مدينة ليبية، وهو ما جعل الكثيرين يفكرون إما في الهجرة، أو عدم الزواج.
-تأخير سن الزواج يسبب مشكلات لصاحبه
وتؤكد الدراسة ذاتها أن تأخير سن الزواج قد يؤدي إلى الكثير من المشكلات الاجتماعية والنفسية والجسدية للشاب أو الشابة، لذا يجب على المجتمع أن يترجم حلولًا واقعية لتجاوز العقبات التي تحول دون الزواج، لاسيما المشكلات الاقتصادية.
-سلبيات تتعلق بالأبناء
وتشير الباحثة في دراستها إلى أن تأخر الفتاة في الزواج قد يؤثر على فرصها في الإنجاب، مؤكدة أنه بالرغم من أن التقدم في العمر قد يجلب للفتيات بعض الإيجابيات والتي تكمن في الاستقرار العاطفي والاتزان والقدرة على التصرف في أمور الحياة، إلا أن سلبياته أيضًا للإناث بشكل خاص كبيرة فيما يتعلق بالعمل والولادة والإنجاب.
وتشير إلى أن السيدات الكبيرات في العمر قد ينجبن أطفالًا معاقين أو مشوهين، كما أن زيادة المدى بين الأبناء والآباء يؤثر في عملية التنشئة الاجتماعية ويعرقلها، وقد يؤدي أيضًا التأخر في سن الزواج إلى مشكلات اجتماعية ونفسية للفتيات.
-السكن وتدخلات الأهل
ويرصد الباحث جمعة عبدالحميد أحمد، في دراسته المعنونة بـ “ظاهرة تأخر الزواج للجنسين في المجتمع الليبي وآثارها وكيفية الحد منها: دراسة ميدانية على عينة بمدينة الخمس” والمنشورة بمجلة علوم التربية الرياضية والعلوم الأخرى، عام 2021، أسبابًا متعددة لتأخر سن الزواج منها، أن السكن المناسب لتكوين أسرة هو أحد أسباب تأخر سن الزواج.
وأشارت إلى أن تدخل الأهل في قرار الزواج من العراقيل أيضًا، كما أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية قد تتسبب في عدم الإقبال على الزواج.
-التعليم داعم أم معرقل؟
وتؤكد الدراسة أن الفتاة التي لم تحصل على مؤهل علمي تقل فرصتها في الزواج، على العكس بالنسبة للفتيات اللاتي حصلن على تعليم، إلا أنها تشير إلى أن الفتيات اللاتي يستكملن تعليمهن ما بعد الجامعي قد يتأخرن بسبب الانشغال في البحث العلمي عن الزواج.
-غلاء المهور والبطالة
وأكدت الدراسة أن من أسباب تأخر سن الزواج غلاء المهور المبالغ فيه، بالإضافة إلى عدم حصول الشباب على فرص عمل مناسبة، وانتشار البطالة، فضلًا عن الالتزام داخل المجتمع الليبي بالعادات والتقاليد كزواج الأقارب وأبناء القبيلة الواحدة أو نفس النطاق الجغرافي قد يضيع على كثير من الفتيات فرص زواج مناسبة.
-ما العمر المناسب للزواج؟
ويتفق مع هذا التوجه الباحث، جمال محمد اندير، في دراسته المنشورة تحت عنوان “دراسة إحصائية لمواقف الشباب الليبي واتجاهاتهم حول الزواج”، مجلة كلية العلوم جامعة طرابلس، حيث توصلت الدراسة إلى أن 94.9% من الشباب والشابات، يرون أن الشاب يجب عليه استكمال دراسته والحصول على الشهادة الجامعية، بينما 87.5% منهم يرون أن الشابة يجب عليها استكمال دراستها والحصول على الشهادة الجامعية.
وأكدت الدراسة أن متوسط العمر المناسب لزواج الرجل نحو 29 سنة، بينما متوسط العمر المناسب لزواج المرأة نحو 23 سنة، حسب آراء عينة الدراسة، بينما يفضل 83.0% من الشباب والشابات أن يكون الزوج أكبر سنًّا من الزوجة، وأن فارق السن يكون من 3 – 5 سنوات.
-رفض عام لزواج الأقارب
وأظهرت الدراسة أن هناك توجهًا عامًّا برفض زواج الأقارب كونه قد يجلب كثيرًا من المشكلات، مؤكدة أنه من بين الصعوبات التي تتسبب في تأخير سن الزواج عدم وجود سكن مستقل، وارتفاع تكاليف الزواج، هذا بالنسبة إلى الذكور، أما بالنسبة إلى الإناث فلديهن مشاكل وصعوبات متمثلة في العادات والتقاليد.
-ضرورة تثقيف الشباب حول الزواج
ورأت الدراسة أنه من الضرورة تثقيف الشباب في مجال الأسرة والمجتمع، على اعتبار أنهم آباء وأمهات المستقبل، من خلال ندوات ثقافية يستطيع الشباب من خلالها إدراك إيجابيات وسلبيات المواضيع المتعلقة بالزواج، كالزواج المبكر، وزواج الأقارب والعادات والتقاليد المرتبطة بالزواج.
ويرى كثير من الخبراء الاجتماعيين أن المعطيات حول واقع الزواج والطلاق في المجتمع الليبي تحتم تناول الظاهرتين من خلال بحوث عميقة، عبر جوانب اجتماعية وثقافية واقتصادية وصحية ونفسية وقانونية وحتى إعلامية.
ويعاني عدد كبير من الشباب الليبي من تأخر الزواج نتيجة الغلاء الفاحش في الأسعار خاصة السكن، وتكاليف المعيشة مقارنة بالرواتب المعروضة وغياب السيولة في المصارف وانتشار البطالة والحروب المستمرة؛ ما أدى إلى انتشار ظاهرة العنوسة التي تخطت 35 في المئة ممّن وصلوا إلى سن الزواج، بحسب بيانات غير رسمية.
-تأخر الزواج قد يسبب أمراضا نفسية
يذكر الباحث محمد ثابت نور الدين، في دراسته التي نشرت بعنوان “الاغتراب الذاتي والقلق العصابي وعلاقتهما بتأخر سن الزواج لدى الإناث العاملات وغير العاملات، بمدينة القبة: دراسة ميدانية” نشرتها المجلة الليبية العالمية، جامعة بنغازي، كلية التربية، أنه يوجد علاقة بين سن الزواج وظهور بعض الأمراض النفسية مثل (السخط والقلق والانعزال الاجتماعي ومركزية الذات) إذ تبين أن النساء غير المتزوجات من العاملات من أعضاء هيئة التدريس لديهن شعور بالاغتراب.
كما تشير الدراسة إلى أن العنوسة تهدِّد بحرمان مؤبد من الحياة الزوجية، وأنه بالنسبة للإناث اللاتي ينتظرن ابن الحلال ولا يأتي يكون الأمر أكثر صعوبة، كونهن يعانين القلق والانتظار والخوف من المستقبل.
-ضرورة علاج أسباب تأخر سن الزواج
توصي الدراسة بضرورة علاج العوامل التي تؤدي إلى تأخر سن الزواج من قبل الدولة والمجتمع.
كما توصي بضرورة التنازل عن التكاليف العالية للزواج، ووضع برامج لتخفيف حدة التوتر والعوامل النفسية التي قد يعاني منها المتأخرون في الزواج عن طريق مجالس المرأة والجامعات وعلماء الاجتماع والمجتمع المدني المعني بقضايا النساء.
-الطلاق آفة تهدد ما بقي من الأسر
لا تقتصر التهديدات التي تواجهها الأسر الليبية على تأخر سن الزواج، بل يأتي من بعدها أيضًا ظاهرة ارتفاع معدلات الطلاق التي تقضي على ما تبقى من الأسر في المجتمع، حيث رصد تقرير حديث نشره موقع “datapandas” المتخصص في الإحصائيات العالمية ارتفاع معدلات الطلاق، حيث تتصدر ليبيا الدول العربية والأفريقية في معدل الطلاق بواقع 2.5 حالة طلاق لكل ألف شخص.
وبلغة الأرقام تشير تقارير إعلامية إلى أن عدد حالات الطلاق وصل في عام 2018 إلى 4091 حالة، وفقًا لتصريحات أدلى بها رئيس مصلحة الأحوال المدنية محمد بالتمر، وعلى الرغم من عدم إصدار الجهات الرسمية لتقارير دورية ترصد حالات الطلاق في البلاد، إلا أن تقارير أخرى تحدثت في مارس من العام 2020 عن وصول حالات الطلاق إلى 36 ألفًا و868 حالة طلاق خلال السنوات الخمس الماضية السابقة لهذا التاريخ، في مقابل إعطاء الإذن الخاص بزواج 305 قاصرات في عام 2018.
-أسباب ارتفاع معدلات الطلاق
في محاولة للبحث عن أسباب الظاهرة وآثارها على المجتمع الليبي وسبل مواجهتها يرى كثير من الباحثين أن الأسباب الاقتصادية والاجتماعية تتصدران الأسباب، بينما يأتي من بين الأسباب أيضا غياب المسؤولية عن كثير من الشباب والتفكك الأسري الذي انتقل إلى الأجيال الشابة وجعلها لا تقدس قيم الأسرة التي حافظ عليها المجتمع الليبي لآلاف السنين.
-العامل الاقتصادي في المقدمة
وتشير كثير من الدراسات إلى أن الأسباب الاقتصادية تأتي في مقدمة أسباب ارتفاع معدلات الطلاق، ويؤيد ذلك ما ذهبت إليه دراسة ميدانية نشرها موقع researchgate المتخصص في نشر الأبحاث العلمية، تحت عنوان “أسباب الطلاق في المجتمع الليبي” الذي رصد 31 سببًا للطلاق في ليبيا في مقدمتها العامل الاقتصادي.
-التحولات الاجتماعية والتغيرات الثقافية
ويأتي من بعد العامل الاقتصادي الأسباب الاجتماعية التي من بينها حجم التحولات التي شهدها المجتمع بسبب الانفتاح الكبير والتغير القيمي، لاسيما بعد زيادة معدلات استخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة، وانتشار السوشيال ميديا، بالإضافة إلى الزواج المبكر أو عدم تأهيل المتزوجين لتحمل مسؤولية بناء الأسرة.
ويشير بعض الخبراء المتخصصين في شؤون الأسرة إلى أن التغيرات التي طرأت على المجتمع تسببت في تغير الأدوار التقليدية للمرأة والرجل في كل أسرة، خصوصًا بعد دخول النساء سوق العمل، وكذلك ارتفاع تكاليف المعيشة، وظهور نماذج تحرض النساء والرجال على تبني وجهة نظر أنانية وعدم التفكير في الشريك، بالإضافة إلى غياب مفهوم الشراكة أيضًا.
-تدخل الأهل سبب تفاقم الحالات
ويرجع أيضًا بعض الباحثين زيادة معدلات الطلاق إلى تدخل أهل الزوج والزوجة في حياة الزوجين، وتعاطي وإدمان بعض الأزواج الكحول والمخدرات، بالإضافة إلى فارق العمر وتفاوت المستوى الثقافي والاجتماعي بين الطرفين.
-الحل في تأهيل الزوجين
يرصد كتاب “الطلاق يهدد أمن المجتمع” للكاتب علي محمد الشرفاء، عددًا من الحلول لمواجهة مشكلة الطلاق التي يراها تهدد أمن المجتمعات العربية، مؤكدًا أن أول هذه الحلول يتمثل في تأهيل الزوجين وتقديم معالجات منطقية للقضايا الخلافية بينهما، مؤكدًا أن الأسرة هي النواة والركيزة الأساسية ولبنة البناء الأولى للمجتمع، وتفكك الأسرة والصراع بين الأب والأم بعد الطلاق يخلق أسرة هشة لا تساهم في بناء المجتمع.
ويشير إلى أنه من الضروري تحقيق المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، التي أغفلها الخطاب الديني المنتشر حاليًا، مشيرًا إلى تغافل الناس عن القاعدة الأزلية في التشريع الإلهي التي وضحت المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة وتقسيم الواجبات عليهما بين القوامة والإنفاق وحماية الأسرة للرجل.
وأردف أنه حين اختصت المرأة بأمور وصفها الكاتب في كتابه بأنها أصعب مما يتحمل الرجل، وهي تبدأ بالحمل وكل ما فيه من صعاب، ثم الولادة والرضاعة والعناية والرعاية والسهر والتربية حتى تعد جيلًا قادرًا على تحمل المسؤولية ومواصلة الحياة بشكل يخرج لنا أجيالًا صالحة تساهم في تنمية وبناء الأوطان والمحافظة عليها لتظل سيرة متواصلة نحو إعمار الأرض بالخير والمحبة والسلام.
ويؤكد أن التربية الجيدة تربي جيلا قادرا على تحمل المسؤولية والإلمام بالحقوق والواجبات وأهمية ومحاولة تخطي عقبات الحياة من خلال الأخلاق والدين السليم الذي يدعو إلى الرحمة والسلام والحب والمودة.(الأنباء الليبية بنغازي) س خ.