بنغازي 12 سبتمبر 2024 (الأنباء الليبية) -عندما ذهبت لتقديم واجب العزاء، كانت أسماء، الناجية الوحيدة من أسرة كاملة مستلقيةً على سريرها تستقبلُ صيحاتِ وعويلَ المعزيات من حولها في وفاة والدها ووالدتها وشقيقتها، وفقدان شقيقتها الأخرى ذات السنوات العشر التي جرفها السيلُ أمام عينيها ولم يُعثر لها على أثر ولم يُعرف مصيرُها حتى الأن”، بهذا استهلت عائشة محمد حديثها وهي تروي لصحيفة (الأنباء الليبية) حالة إحدى الناجيات من السيول التي اجتاحت منطقة الجبل الأخضر العام الماضي.
ونقلت عائشة ما روته أسماء، عن اللحظات التي أعقبت نجاتها بأعجوبة من السيول المدمرة التي جاء بها إعصار دانيال ليلة 10 إلى 11 سبتمبر 2023 ليضرب مدينة درنة وعديد مدن الجبل الأخضر، قائلة: ” كانت عيناها جاحظتين، تبكي بدون دموع، تتفقد جهاز المصل الموصول بيدها تارة، وتنظر في وجوه المُعزيين من حولها تارة أخرى.
أسماء، الناجية الوحيدة بين ذويها من السيول التي حاصرتهم عندما كانوا متجهين من مدينة بنغازي ليلة النازلة إلى حفلِ زفاف قريب لهم، لينقلب الفرح إلى ترح بعد أن حاصرَتهم مياه السيول التي هطلت على منطقة تاكنس.
تعود أسماء بالذاكرة إلى تفاصيل يوم الوجع والألم والمصاب الجلل والفقد العظيم قائلة لمن حولها: ” تركت أطفالي مع أبيهم في مدينة بنغازي، وذهبت مع أهلي لحضور حفل زفاف أحد أقاربنا، كانت رحلة كغيرها لا توحي برائحة الموت والفقد الآتية.
بدأت وتيرة الأمطار بالازدياد. أوقفتنا دورية من رجال الشرطة، كانوا في مهمة تأمين حركة المرور ونصحونا بالعودة، لكن والدي أبي وكأن لحده كان ينتظره، وأخبرهم مازحا معهم أن سيارته مرتفعة ولن تقدِر السيول عليها… واقتحمنا طريق الموت ونحن نضحك”.
وأضافت “بدون سابق انذار، وجدنا أنفسنا محاصرين بالمياه من كل جانب، كانت السيارة تترنح يمينا ويسارا من قوة الرياح. كان والدي ينظر إلينا بعينين مرتعبتين وصوت مرتعش ويكرر جملة واحدة على لسانه: لا تخفن تشهدن فنحن عبيد الله والأمر بيده … نحن عبيده والأمر بيده”.
واستطردت أسماء أن تلك الجملة، التي علقت في ذاكرتها إلى اليوم، كانت آخر محاولاته ليهدئ من روع بناته وزوجته، إلا أن هلع إحدى أخواتها كان أكبر، حتى أنها لم تستوعب المشهد وفتحت باب السيارة وقفزت منه، فقفزت أسماء للحاق بها ولكن كان للسيل الهائج رايٌ آخر فقد جرفها بعيدا عنها حتى توارت تماما.
وقالت: ” ما إن وجهت ناضريِ لسيارتنا، رأيتها تغرق وتنجرف بعيدا عني ولم أعلم عن أمي وأبي وأخواتي من بعد ذلك أي شيء”.
وواصلت سرد فاجعتها: “بعد ساعات من التخبط وإشرافي المؤكد على الغرق، وعدم استيعابي لما أمر به، لفظني السيلُ على جانب الطريق. أخذت أمشي حافية مترنحة أتطلع إلى رجلي المصابة وكان الجرح غائرا، وثيابي مغموسة في الوحل ورأسي عارٍ. وجدت بابًا لمزرعة وبدأت في الطرق مستنجدة أصحابه لعلني أستطيع اللحاق بأهلي وإرسال المساعدة لهم”.
وأضافت “فُتح الباب، رمقتني نساء من ورائه بنظرات خوف فقد اعتقدن أنى مجنونة ولم يكن يفهمن ما اتفوه به ولعلي أنا نفسي وقتها لم أفهم ما أقوله من شدة هول الواقعة حيث انعقد لساني”.
كانت أسماء تتوقف لتلتقط أنفاسها وهي تسترجع صور الفاجعة التي ألمت بها ومشاهد خطف السيول لوالديها وأختها، لتضيف ” خرج مجموعة من الرجال من المزرعة وهذا آخر ما أتذكره حيث بقيت أعدد أسماء عائلتي، ورويت ما رأيت. لقد كانت المزرعة بعيدةً عن مجرى السيول وبالتالي لم يصدقوا ما حدث، نقلوني إلى المستشفى حيث ضمدوا جروحي، غير أن جرح فقداني لأهلي لا يزال ينزف إلى اليوم، ثمن رحلتنا إلى الموت”.
ضرب إعصار دانيال ساحل بلادنا الشرقي، مسبّبا فيضانات كبيرة في درنة وسيول جارفة في مدن الجبل الأخضر، وانهار سدّا المدينة، ما أسفر عن حوالي 5.4 آلاف شهيد بحسب الاحصائيات الرسمية وآلاف المفقودين وأكثر من 50 ألف نازح، إلا أن عدد الضحايا لا يزال يثير الكثير من الجدل في الشارع الليبي عموما، والشارع الدرناوي تحديدا، بعد مرور عام عن هذه الكارثة غير المسبوقة في البلاد. (الأنباء الليبية بنغازي) س خ.
-حوار: فاطمة الورفلي