درنة 14 سبتمبر 2024 (الأنباء الليبية)- “خشيت أن أعبر عن الوجع بالغضب حتى لا أثير حفيظة آخرين أو يُقيًمه أحد المتاجرين بجروح الـناس، لهذا التزمت الصمت وقررت أن أضم على جرحي في صدري وأسكت إلى حين أن أقول الحقيقة، شاء من شاء وأبى من أبى، الحقيقة التي تستند على وقائع”، هكذا استهل الشاعر والكاتب الصحفي والمسرحي، أحمد بللو حديثه مع موفدة لصحيفة (الأنباء الليبية) إلى درنة في الذكرى الأولى لنازلة إعصار دانيال الذي ضرب المدينة الزاهرة وعديد مدن الجبل الأخضر، ليلة 10 إلى 11 سبتمبر 2023، وخلف آلاف الضحايا والمفقودين ودمارا هائلا، خاصة في درنة، وحزنا وآلاما وأوجاعا وعيونا لا تزال تبكي في صمت فقدان أم، أب، ابنة، ابن، صاحبة، صديق، صديقة، وصدوع في الذاكرة، وحالة إنكار وحنين لأزقة وشوارع ومبان عتيقة وساحات وشرفات تغطيها الزهور والورود، مرتبطة بذكريات الطفولة والشباب، جرفتها السيول وألقت بها إلى البحر، رغم مشاريع إعادة الإعمار العملاقة المتواصلة على مدار الساعة.
استقبلنا بللو (فريق صحيفة الأنباء الليبية)، عند رأس منحدر، واصطحبنا عبر مسلك ترابي ضيق بمحاذاة مجرى واد صغير، يحمل اسم (وادي بللو)، إلى بستانه الذي لا يزال يزرع فيه إلى اليوم، الحبق والنعناع والريحان والبقدونس، وتزينه بعض أشجار الرمان والقشطة، وست أشجار من نخيل “البرونسي” تتدلى منها عراجين شبه جاهزة للقطف.
وأضاف: ” دخلت في شبه عزلة وانقطعت عن العالم بعد أن أغلقت حساباتي على مواقع التواصل الاجتماعي. بت أخشى درنة التي تسكنني، أخاف اليوم السير في شوارعها وفي أزقتها وأتساءل مع نفسي كل صباح: كيف لي أن أسير فيها ولم تعد كما كانت. كان لي في كل شارع صديق وصاحب وعزيز، ومعالم وذكريات طفولة، كلها اختفت، حملتها الرياح العاتية والفيضان الهادر إلى المجهول”.
كان الشاعر أحمد بللو يحمل في عينيه دموعا محبوسة رفضت أن تسيل لمضاعفة الوجع، غابت ابتسامته المعهودة وارتسم على وجهه حزن عميق لا تُخطئه العين، وسمعت عندما اقتربت منه مع لاقط الصوت لتسجيل المقابلة، وهي الأولى له منذ النازلة، أنينا في قلبه السبعيني، بحجم الدمار الإنساني والنفسي والمادي الذي خلفه إعصار دانيال.
استنكر بللو بشدة ثقافة الإهمال وعدم احترام ما ننجزه، والتطرف والتصحر الذي يعشش في عقولنا، متحسرا على حال درنة التي وُلد وترعرع فيها، هذه المدينة التي لا تمشي في أحد شوارعها وأزقتها وساحاتها إلا وسط الخضرة والأشجار والزهور المتدلية من شرفات بيوتها، لتفوز عن جدارة بلقب “درنة الزاهرة”، مؤكدا أن أهل درنة لم تكن لديهم أسوار تحيط بمزارعهم البسيطة، وبالتالي كانت المنحدرات والهضاب خضراء بما تزرعه أيادي الفلاحين من أبنائها.
وتابع بللو يرسم بلغة شعره لوحات عن مدينته قائلا: ” أذكر أن الوادي كان يفيض ويدخل علينا بلطف في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وكنا نستيقظ صباحا لنرى الشباب يحملون العجائز على أكتافهم … لم نكن نستفظع فيضان الوادي بل كنا نستبشر به خيرا ونفرح بالماء، مصدر الحياة. لم يكن الوادي متجبرا على أهل المدينة”.
وقال إن درنة عبر التاريخ لم تكن سوى ثغرا استعمله القراصنة والحضارات التي تعاقبت على البلاد. ولم تكن مدينة بمدلول الكلمة، وأعرب عن اعتقاده بأن المدينة جاءت مع الأندلسيين الذين وجدوا الخضرة والماء وبالتالي اختصر مشروع درنة المدينة في حلم لملحمة بعد الكسر الذي أصابنا في الأندلس.
واستطرد أن درنة بنت العمل، وقائمة على الزراعة، وهي أكثر مدينة في ليبيا لم يخلقها موقعها الاستراتيجي، بل خلقتها الحرف التي امتهنها أهلها وتنافسوا في السوق مشيرا إلى أنه حتى وقت قريب، وفق خلفيته كمزارع، لا تستطيع تسويق ما تنتجه من الحبق والنعناع وغيره للشاري إلا لما يكون إنتاجك دون أية شوائب مؤكدا أن المشتري كان يدقق في اللون وفي الرائحة ويتفحص حزمة الحبق على سبيل المثال مرات عدة.
وتابع متحدثا عن ليلة الإعصار: ” الفاجعة لم تكن مفاجئة بالنسبة لنا خصوصا في اللحظات الأخيرة عندما بدأت الأمطار تضرب من الشرق، ونحن في درنة نعرف أن الأمطار التي تأتي من الشرق هي الأكثر غزارة والأكثر تأثيرا على درنة. لكن المشكلة بالنسبة لنا، كمثقفين أو كمطلعين على الشأن العام والمهتمين به، نعرف بوجود تقارير هندسية تقول إن السد يُعاني من شرخ منذ نهاية التسعينيات، وكان احتمال تصدعه وانهياره واردا لكن لم يلتفت أي أحد إلى ذلك فيما يبدو”.
وأضاف أنه كان يتعين على المسؤولين والفنيين أن يأخذوا في اعتبارهم أن هذا السد المتصدع يحمل في داخله دمار درنة، وهي بنت واد تاريخي شق الجبل ليصل إلى البحر، متسائلا كيف يُمكن لأي سد ترابي أن يواجهه ويصمد أمامه. لقد جرف طوفان الماء والطين عمارات سكنية بمن فيها واقتلع أشجارا عمرها ما بين 400 و500 عاما وألقى بكل شيء حطاما في البحر؟
وقال بللو “إن الصدمة التي واجهتها المدينة كانت في الوجدان، وفي تصوري فإن درنة القديمة التي في ذاكرتي، وأنا عمري اليوم 71 سنة، ومن مواليدها، مواليد عهد الاستقلال، المدينة التي تعلمنا فيها أنا وإخوتي أخواتي، درنة التي أعرفها وتسكنني أضحت حلما وانتهى”.
وفي رده على سؤال: هل مازالت آثار الفاجعة موجودة، أوضح بللو أن درنه ليست معمارا وحجرا وبشرا فحسب، بل هي منظومة قيم، وكانت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي مدينة بكل قيم المدينة الحديثة أيضا، مؤكدا أن من لم يُرسل ابنته إلى المدرسة في ذلك الوقت تلحق به الفضيحة ولكن، كما قال محمود درويش، ذات يوم: “كان ما سوف يكون”.
وتابع بللو بنفس متقطع وقد غطت وجهه حبيبات من العرق، لا أعرف إن كانت من حرارة الجو أو من هول الفاجعة، وهو يسترجع بعض الصور لمشاهد الرعب والرحيل المر للأهل والأحبة بفعل قسوة الطبيعة وإهمال البشر، في رده على سؤال عن الذكريات التي قد تكون وُلدت وترفض أن تموت في ذاكرته بعد عام من الفاجعة، قائلا: ” مازالت حتى الآن أخشى أن أذهب إلى بعض الأزقة وقد لا أزورها أبدا لأن لدي معرفة في كل شارع من شوارع درنة … لقد فقدت عددا كبيرا من أهلي وأهل زوجتي وعددا أكبر من أصدقاء طفولتي وجيراني، وكل فقيد في درنة هو من أهلي، ودخلت في عزلة”.
وأضاف أن العزلة لم تحمه من الوجع بل حافظت عليه وانقطع عن التواصل مع أصدقائه، شارحا: ” أحمل شيئا في نفسي عايشته وجربته عند خروجي من السجن عام 1988. جئت إلى درنة ولم أعرفها، أنكرتها لأنها لم تكن درنة طفولتي وشبابي، المدينة النظيفة المنظمة حيث يتنافس الحرفيون والمزارعون، درنة التي لا يُوجد بها سطوة القبيلة أو الطائفة أو العائلة، تغيرت ولم تعد كما تركتها … واليوم يحدث نفس الشيء على نطاق أكثر غربة وأشد وطأة”.
ورسم الشاعر والكاتب الصحفي والمسرحي الليبي، أحمد بللو، في ختام المقابلة وسط بستانه الجميل، صورة إنسانية موجعة عن خوفه من النزول إلى الشارع قائلا: ” في الشارع بمحاذاة البحر قريبا من الشاطئ جرف طوفان الماء والطين بالكامل عمارة بها لا يقل عن 40 شخصا لدي علاقة مباشرة معهم، هم عائلة أبو حمراء، وعائلة المحجوب التي تسكن في نفس الشارع، وتعد 55 فردا وما زلت أستمع إلى اليوم عندما أجلس مع أسرتي، قصصا عن أسماء رحلت. ولم تنته القصص الموجعة بعد عام من النازلة. (الأنباء الليبية) ص و
-متابعة: هدى الشيخي
-تصوير: وليد الحفار